حضارتنا.. هذه المنظومة المعرفية المتداخلة والمتشابكة – التي لا تبعد عن شعارات توفير الحياة الكريمة لإنسان هذا الوطن، وحفظ مصالحه في يومه وغده. إن حضارة وطننا أكبر من أن تحصر- في أذهان البعض – في كتل إسمنتية جامدة، ومبان شاهقة براقة، ومصانع وصناعات مجلوبة ومستوردة بأكملها من الخارج، وقصائد فخر رنانة، ومهرجانات تحتفي بماضينا وأسلافنا، وأسواق مركزية تتكاثر بنسب بكتيرية مهولة تفوق بمراحل عديدة نسب التكاثر البشري، غيرعابئة بغول التضخم وحتمية نفاذ بعض الموارد وضبابية الآتي. إن حضارتنا المرجوة كائن حي حياته كحياتنا، أو لعلها – في ماضينا وحاضرنا وغدنا – انعكاس لبعض حياتنا أو حياة بعضنا، هي كائن حي يتحرك وينمو ويتغير، كائن حي يحتاج لأمور ومقومات عدة ليتنفس ويفكر، ولينمو ويزهر، وليثمر ويعطي، وليبني ويشارك. هي كائن حي يتفاعل مع ذاته ومحيطه مؤثرا ومتأثرا، فيصح أحيانا ويقوى وينضر، ويمرض ويضعف ويذبل – كلا أو جزءًا أو ظاهرا أو باطنا – في أحايين أخرى، وهو في الحالين محتاج لا يستغني عن الرعاية والحذر والحماية والتشخيص المستمر لصحته ومتابعة مؤشراته الحيوية، فليس فقر الدم – مثلا كما يخبرنا الأطباء – مقترنا في كل الأحوال والمراحل بالهزال وشحوب اللون. كيف نشخص صحة حراكنا الحضاري؟ إنه سؤال جاذب وخلاب وآسر! سؤال كنت أتوقع – في بداية البحث – أن تكون إجابته سهلة يسيرة وموجزة، وسرعان ما أدركت ألا مهرب لي من أن أعترف بجهلي وجرأتي على هذا المبحث العميق! فهربت – مجبرا وغير متواضع- من الإجابة، وأرتأيت بعد ذلك أن أشرك القارئ الكريم في البحث والفكر، فواصلته عارضا لأسئلة أخرى تتفرع من هذا السؤال – والتحدي – الأكبر، ومقصدي هو الطرح العام لهذا السؤال، وإنارة بعض جوانبه بطائفة من الأسئلة التي آمل أن تستحث الفكر، وتفحص الفرضيات، وتتحدى بعض المسلمات المتعلقة بالموضوع، أو يستقيم لنا أن نسأل عن صحة حراكنا الحضاري ونحن لم نتفق بعد على مفهوم الحضارة ودلالاتها ومؤشراتها؟ ما حقيقة الحضارة؟ هل تمثل الحضارة تلك المقابر الأثرية التي بنيت بدماء الآلاف من الفقراء المجهولين أم هي بقايا أطلال متهدمة ورسوم ونقوش من عهد مضى وولى؟ هل الحضارة علوم وأخلاق وفضائل وعطاء للبشرية؟ هل يصح ادعاء البعض أن حقيقة الحضارة هي بناء الإنسان الذي يبني الحضارة؟ مامدى حرية الإنسان في بناء الحضارة؟ كيف يُبنى ( بضم ياء الفعل) هذا الإنسان فكرا وانتماء وهوية؟ أيستقيم بناء الإنسان وبناء الإنسان للحضارة بعيدا عن العون الإلهي متمثلا في إرسال الرسل وإنزال الكتب؟ أم أن الحضارة أضحت: مفهوما نخبويا معرفيا في الظاهر وسياسيا في الجوهر والمضمون؟ ولقبا تشريفيا يحتكر حق منحه الغالب – ومقلدوه – انتقاء لمن يشاء وكيفما يشاء؟ أم أن المفهوم المعرفي الشمولي للحضارة يتفاوت تبعا لفهم وإدراك الإنسان – الباني للحضارة – للحقائق الكونية الكبرى: من الخالق؟ من هو الإنسان؟ ما مهمة الإنسان في الأرض؟ ماهي الحياة؟ ماهو الحق والباطل؟ ما هي الفضيلة؟ لعل أجوبة هذه الأسئلة تمهد لتحديد مرجعيات معرفية ومحاور أساسية ومؤشرات حيوية – مشتركة ومتفق عليها معنى ودلالة وتطبيقا – تعين على تشخيص وتحسين وتحصين صحة حراكنا الحضاري، فلا عبرة بقياس ضغط الدم – مثلا – إذا لم يتفق الأطباء عليه كمؤشر معياري محدد ودقيق لصحة القلب والشرايين والدورة الدموية! لعلنا نفيد في بحثنا عن القواسم المشتركة داخل إطار الملة من النداء القرآني الخالد الموجه لأهل الكتاب: قال الله تعالى (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) سورة آل عمران: 64، وليس بمستبعد في هذا السياق أن نحتاج أن نعقد أحلافا مع من نشاركهم في مهمة تشخيص صحة حراكنا الحضاري وفق أرضيات مشتركة مستضيئين بهدي آية قرآنية، يقول الله عز وجل:( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) سورة الممتحنة: 8، وللحديث بقية وامتداد لدى قرائنا الأفاضل.