رُبّ خليلين دأبا على الصفاء والود أحالتهما أحداث الربيع العربي أعداءً ألدّاء. ليس أحدهما من فلول الأنظمة العربية السابقة، ولا الآخر من جحافل الثوّار، بل يعيش كلاهما بعيداً عن تلك الظروف، في بلدان لم يمسها شواظ الثورة، ولم ينفعلا بها سوى عبر شاشات التلفزيون وصفحات الجرائد وتغريدات التويتر. يبدو الأمر تهكمياً من هذه الزاوية، ولكنه من زاوية أخرى متوقع وطبيعي. فالأحداث السياسية ذات الطابع المحتدم دائماً ما تقسّم الآراء حولها بشكل حدّي، وتفرز الناس بثنائية غير قابلة للتعدد. والناس بطبيعتهم يختلفون في ردة الفعل بين متوجس ومتحمس، ومتأنٍ ومندفع، وبين مبطنٍ سخطاً ومبدٍ رضا ونقيض ذلك. حتى إذا جمعت ردود الأفعال في حيز واحد -كالإنترنت على سبيل المثال- أدّى هذا التباين الظاهري في ردود الأفعال إلى اصطدام أصحابها ببعضهم، ودخولهم في عداء على هامش الثورة. في أكثر من حادثة، اختصم طرفان حول أحداث الربيع العربي، رغم كونهما معاً في صف واحد مؤيد للثورة الليبية أو السورية أو المصرية أو التونسية أو اليمنية. سبب الخصام واحد من اثنين؛ الأول هو التحفظ في التعبير عن التفاؤل، إلى حد يلمح بطيش الثوّار وغلبة عاطفتهم؛ الأمر الذي يستشيط منه الآخر غضباً، ويصفه بالمتعاطف مع الأنظمة الفاسدة، والثاني هو المزايدة في الحماسة الثورية إلى حد ملء المكان بالهتافات والصراخ والانفعال؛ الأمر الذي يستفزّ الآخرين لما يرونه فيه من محاولة لإدانة مواقفهم المتحفظة، أو (برودهم) الثوري وتواطئهم من الماضي. الأمر إذاً يشبه أن يتفق الطرفان على تأييد الموقف ثم يختلفان في درجة ذلك التأييد وحيثياته. والاختلاف في درجة التأييد، وليس التأييد نفسه، هو اختلاف طفيف من حيث المبدأ، لا يجدر به أن يفسد الود، ولكن الشواهد الواقعية توحي بأنه كفيلٌ بإيقاع الخصومة، وتوليد الشتائم، وتحويل الأفق الإنترنتي إلى حلبة مصارعة افتراضية، تصارع فيها المتفرجون فيما بينهم، منشغلين عمن هم داخل الحلبة. الأحداث السياسية الكبرى تجرّ وراءها تبعات اقتصادية واجتماعية وثقافية مؤثرة. كل هذه التبعات في مجموعها تشبه كتلة من البلور متعدد الأوجه، كلما نظرت فيه من زاوية أبصرت انعكاساً مختلفاً. لا يمكن أن تتوحد رؤى الناس على زاوية، ولا يمكن أن ينطبع في أذهانهم الانعكاس نفسه. إذا أضفنا إلى ذلك الاختلافات الفردية في تفسير الأمور، وتقدير التبعات، وتفكيك المتشابك، وتقرير المحتمل، فإن الاختلاف حول الموقف السياسي هو أمرٌ لا مفرّ منه، مهما كان الحق أبلج، ومهما كان الطرفان متفقين حول القيم الأساسية والهرم الأخلاقي. ولما كانت المجتمعات العربية بشكل عام مجتمعات مغموطة الحق السياسي، تعلّق فقط على السياسة ولا تمارسها، فقد تحولت المواقف الشخصية نحو السياسة إلى فرصة لتحقيق الذات المعنوية للفرد، لاسيما مع انبلاج بارقة أمل سياسي مع الربيع العربي. إن الطرح الثوري عالي الصوت دائماً، سواء كان حقاً أو باطلاً؛ لأن الثورة تحمل ضمن مكوناتها الأساسية بعداً صوتياً يعدّ من ضرورات بقاء الثورة. فهذا الصوت هو ما يضمن للثورة الانتقال من ثائر إلى آخر. وبغض النظر عما إذا كانت المكوّنات الأساسية الأخرى للثورة حقيقية أم مزيفة، فإن البعد الصوتي هو أملها في استمرار فعلها الثوريّ على قيد الحياة. البعد الصوتي هو القاسم المشترك بين الثورات المفتعلة التي زيّفت إرادة الشعوب، مثل ثورة الفاتح من سبتمبر، التي جاءت بالقذافي إلى السلطة، وبين الثورات الصادقة المنبثقة من صميم إرادة الشعب، مثل ثورة 17 فبراير، التي خلعت القذافي من عرشه. لكلتي الثورتين صوتٌ عالٍ، أحدهما صنعته مكبرات صوت زائفة، والآخر صنعته تكبيرات شعبٍ كظيم. الثورة بحاجة إلى صوت بغض النظر عن معدنها. صوت كاسترو عندما كان يزحف مع رفيقه غيفارا باتجاه هافانا الكوبية كان عالياً يتردد صداه عبر الأدغال، شاحذاً الهمم، وململماً شتات الأتباع، وهو نفسه صوته عندما استحوذ على السلطة ثم سلّط على الكوبيين خطبه الرنانة التي يردد فيها عليها شعاراته نفسها منذ 52 سنة. كاسترو ليس زعيماً مدمناً للميكروفون فحسب، ولكنه يعي جيداً أن خطبه هي الجذوة الباقية من صوت الثورة، ومتى سكت صوت الثورة .. انتهى حكمه. السبيل إلى تصالح المتخاصمين حول أحداث الربيع العربي هو أن يدركوا الفرق بين الثورة وصوتها، أن اتفاقهم حول تأييد الثورة أو معارضتها أمر، واختلافهم على درجة الصوت المقبولة في الحديث عن الثورة أمر آخر. فالأمر يشبه إلى حد ما أن يتفق متفرجان على جودة فيلم سينمائي، ثم يختلفان على درجة الصوت المناسبة عند مشاهدتهما له.