ما إن بدأت التداعيات السياسية للإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس المصري محمد مرسي، الذي منح لنفسه صلاحيات كبرى شبهها بعضهم بأنها صلاحيات أنصاف آلهة أو فرعون صغير.. ما إن تداعت ردود الفعل حتى فقدت البورصة المصرية عشرة بالمائة من قيمتها مما اضطر القائمين عليها إلى توقيف التداول، فيما بدأت الساحة المصرية تغلي ويعاد إنتاج الهتافات التي أطلقها ثوار 25 يناير من ميدان التحرير والميادين الأخرى التي اتخذتها القوى السياسية المعارضة التي يبدو أنها توحدت ضد الحزب الحاكم وجماعة الإخوان المسلمين، ليبدأ فرز أكثر صراحة بين الديني بتلاوينه السلفية الإخوانية من جهة، وبين القوى العلمانية والليبرالية والاشتراكية والناصرية، من جهة أخرى. هذا الفرز لاشك أنه سياسي بامتياز وخارج إطار اللعبة الفئوية والطائفية التي جرت في بعض بلدان الربيع العربي، حيث رددت أنظمتها نفس الأسطوانات المشروخة والمستهلكة، بأن حراك شعوبها ليس سوى أجندات طائفية موجهة من الخارج الذي يريد الإضرار بالمصالح الوطنية العليا! النقطة المحورية في الإعلان الدستوري الذي أطلقه الرئيس مرسي يتكثف في المادة الثانية منه، وهي تنص على «الإعلان الدستوري والقوانين والقرارات الصادرة عن رئيس الجمهورية حتى نفاذ الدستور وانتخاب مجلس شعب جديد تكون نافذة ونهائية وغير قابلة للطعن عليها». هذه المادة أسهمت إسهاماً مباشراً في تحريك المياه الراكدة بين القوى السياسية المتعارضة والمعارضة للسيطرة الإخوانية على مقاليد السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، وبدأت تأخذ توجهاتها حالة من التنسيق الميداني الذي شاهدنا جزءاً منه خلال الأيام القليلة الماضية، وهو الأمر الذي من شأنه تشكيل معارضة جدية لحكومة الإخوان المسلمين في مصر، ورسالة واضحة المعالم إلى الأحزاب الإسلامية في الدول الشقيقة التي فازت بأغلبيات مريحة في الانتخابات النيابية كما هو الحال في تونس والمغرب. الرئيس المصري ومن وراءه حزب العدالة وحركة الإخوان المسلمين والسلفيون أيضا، وجدوا أنفسهم أمام مواجهة سافرة وقاسية مع نادي القضاة الذي أعلن تعليق العمل في المحاكم المصرية. فقد وجد القضاة أن ثمة استصغارا بهم وبالمحكمة الدستورية فلم يخف بعضهم امتعاضه في وسائل الإعلام فراح يدعو إلى بطلان قرارات سابقة على الإعلان الأخير أصدرها الرئيس مثل الإعلان الذي أصدره في 11 أغسطس وحل بمقتضاه المجلس العسكري وأحال رئيسه للتقاعد، إضافة إلى طبيعة تشكيلة الجمعية التأسيسية وتركيبة مجلس الشورى، وهي قرارات وإعلانات من شأن الطعن فيها إحداث فراغ يمكن أن يزيد الاحتقان السياسي، ويدهور الاقتصاد الوطني الذي ينتظر حقنات مليارية من دول في مجلس التعاون الخليجي ومن الاتحاد الأوروبي ومن صندوق النقد الدولي. وهذه معونات وقروض، فوق أنها تتعارض مع ما أعلنه مراراً الإخوان، فهي لا تدخل الخزينة المصرية إلا بأثمان سياسية لن تكون هامشية بالتأكيد، خصوصاً مع حداثة التجربة الإخوانية في الحكم وبراعة الدائنين في تلبيس المواقف التي يريدونها من مدينيهم. صحيح أن الرئيس مرسي أعاد التأكيد على عدم نيته التراجع عن إعلانه الرئاسي، وصحيح أيضا أن مجلس القضاء الأعلى دعا في بيان أصدره يوم 25 نوفمبر 2012 إلى إعادة صياغة الإعلان ليقتصر فقط على القرارات السيادية، وهذه مرونة «قضائية» لافتة، إلا أن الصحيح أيضا هو أن نادي القضاة نجح في الحصول على التأييد المريح لقراراته الرافضة للإعلان الرئاسي وتمكن من شل الجزء الأكبر من المحاكم في مصر بقراره تعليق العمل، ما يقدم مؤشرات جدية على أن قضاة مصر يسيرون في طريق غير الطريق الذي يسير عليه مرسي وإن كان ذلك مغطى ومدعماً بالمواد القانونية والدستورية. ربما سبب القوس المشدود بين مؤسسة الرئاسة والقضاة، إقدام أحد أعضاء اللجنة المصغرة لصياغة الدستور هو الدكتور حسين حسان عن بعض تفاصيل ما وصلت إليه الجمعية التأسيسية المكلفة بصياغة الدستور، حيث أعلن لصحيفة الأهرام يوم 27 نوفمبر 2012 بأن 200 مادة من مواد الدستور قد تم إنجازها من أصل 230 مادة. وهذا إنجاز كبير ويأتي الإعلان عنه في هذا التوقيت ليقطع الطريق على الذين انسحبوا من أحزاب المعارضة ومن العناصر المحسوبة على الكنيسة القبطية، بل حاول حسان أن يشكك بطريقة غير مباشرة في الذين صرحوا للإعلام عن انسحاباتهم لكنهم لم يقدموا شيئا مكتوباً بهذا الخصوص، ففصل في طريقة اتخاذ القرارات في الجمعية التأسيسية عندما أكد أن القراءة الأولى للمادة تمرر بأغلبية 67 بالمائة وفي القراءة الثانية بنسبة 57 بالمائة، أما المواد الحساسة المتعلقة بالشريعة الإسلامية فإنها تمرر بالإجماع فقط. لكن هذا «الكشف» الدستوري مرجح ألا يغير الموقف المعارض من الرئيس محمد مرسي الذي يراه خصومه والمختلفون معه أنه يتحول بهذه الإعلانات إلى إله صغير. وهذا مفصل آخر من مفاصل استمرار الثورة ليبقى الجدل بين الشرعية الثورية والشرعية الدستورية.