الدول المتقدمة اقتصادياً برعت في تعميق الرابطة بين العلوم الأساسية (الفيزياء، الأحياء، الكيمياء، الرياضيات) والتنمية لأقصى الحدود، حيث يعزى سبب التحسن في مستوى معيشة أفراد المجتمع في هذه الدول إلى التقدم العلمي والتقني، وتبلغ نسبته في هذا التحسن 60-80 %، بينما تبلغ حصة وجود رأس المال 20-40%. وفي هذا السياق، يأتي تنظيم المؤتمر السعودي الخامس للعلوم بجامعة «أم القرى» في مهبط الوحي تحت شعار مختلف وعملي جداً «رؤية جديدة لدور العلوم الأساسية في التنمية». يواجه البحث العلمي في مجال العلوم الأساسية معضلة كبيرة على مستوى العالم، ويعود ذلك إلى طبيعة البحث، التي تتطلب وقتاً طويلاً حتى تنضج ثمرات هذه الأبحاث، وتكون على هيئة منتجات وتقنيات تدخل في دورة الاقتصاد العالمية، ويشعر بها الجميع بشكل ملموس. وإذا كان ذلك يسبب إشكالاً كبيراً على مستوى الدول الأكثر تقدماً في المجال العلمي، فإن المشكلة بالنسبة لدول العالم الثالث مزدوجة، فالطبيعة هي نفسها، ولكن قلة الموارد البشرية، ومن جهة أخرى حاجات المجتمع التنموية الملحة، تزيد الأمر تعقيداً. في البداية، سأحاول إعطاء بعض الأمثلة التي توضح طبيعة البحث العلمي في مجالات العلوم الأساسية. المثال الأول هو عن الألياف البصرية: الاختراع المذهل الذي تمتد منتجاته آلاف الأميال أسفل المحيطات ليتواصل العالم عبر الاتصال الهاتفي والشبكة العنكبوتية. أساس هذه التقنية بدأ عن طريق بحث علمي في مجال العلوم الأساسية عندما درس أينشتاين في الأربعينيات ظاهرتي الامتصاص والانبعاث، مما أدى بدوره لظهور الليزر في الستينيات، ولاحقاً أمكن تطوير تقنية الألياف البصرية عبر التزاوج بين مجالي الليزر، والمواد المتقدمة. فكما نرى فإن رحلة هذا البحث قد امتدت خمسين عاماً حتى رأى العالم ثمرة هذا البحث العلمي. وهنا يحضرني مثال تاريخي. ففي عام 1850 كان العالم الإنجليزي الشهير مايكل فارادي يعرض أبحاثه في الكهرباء على وزير المالية البريطاني الشهير جلادستون. فسأل جلادستون فارداي سؤالاً فيه شي من الاستخفاف عن فائدة هذه الأبحاث، فقال له فارادي (Sir, some day you will tax it)، أي أنه في يوم ما ستتحصل على ضرائب بسببها. وبالفعل، فكل منتجات الأبحاث هي واقع نعيشه الآن، ونستفيد منه، وبشكل دائم، سواءً الكهرباء، أو الليزر، أو المواد المتقدمة، أو الألياف البصرية. وهناك مثال آخر من عالم الرياضيات، فالرياضي الفرنسي الشهير جوزيف فورير ابتدع طريقة التحويل الرياضية الشهيرة (Fourier transform) في نهاية القرن السابع عشر، ولم تكن لهذه الطريقة تطبيقات عملية آنذاك، والآن غالبية الأجهزة العلمية تعتمد على هذا المفهوم الرياضي الذي ظهر قبل مائتي عام! ولنأخذ مثالاً آخر عن تقنية التصوير النووي المغناطيسي (MRI)، التي لا يستغني عنها أي مستشفى مرموق، فمتى بدأت فكرة هذا البحث؟ لقد بدأت بأبحاث نظرية في مجال الرنين المغناطيسي، وقام بها العالم (Rabi) في العام 1938. فتأمل أخي الكريم المدة الزمنية التي استغرقتها الفكرة لتتحول إلى تقنية يستفيد منها الناس في السنوات الأخيرة. ماذا يعني ذلك لمجتمعنا (بل لكل المجتمعات النامية)؟ يعني أنه لابد أن توضح الجهات المهتمة بالعلوم الأساسية، ومن ضمنها مؤتمرنا هذا، هذه الطبيعة الخاصة لأبحاث العلوم الأساسية للمجتمع، وبالذات لصانعي القرار منهم والمؤثرين فيه. ولدفع البحث العلمي في الدول النامية، ينبغي توفير أجهزة البحث الأساسية، والتي يُفضل أن تكون على هيئة وحدات مركزية Central Facility، كما ينبغي تسهيل وتسريع عملية شراء المواد والكيمياويات وقطع الغيار. هناك أيضاً أمران آخران يشكلان عائقاً حقيقياً: ألا وهما نقص عدد الفنيين المؤهلين الذين يهتمون بالأجهزة العلمية غالية الثمن، ويساعدون في صيانتها، ثم الطلاب، الطلاب: وأقصد طلاب الدراسات العليا، فبدونهم لا ينتج بحث علمي مميز. انظر إلى حالة الولاياتالمتحدة عندما عانت من مشكلة قلة عدد الطلاب الأمريكيين الراغبين في إكمال دراساتهم العليا، فقامت بفتح الأبواب لقبول الطلاب الصينيين والهنود... إلخ، والذين كانوا بدورهم القوة الدافعة للبحث العلمي بالولاياتالمتحدة على مدى 25 من السنوات الماضية. كما ينبغي للجامعات إيجاد آلية واضحة للتعاون مع الصناعة، عن طريق تبادل الزيارات البحثية الموسعة للعلماء والعاملين بالمصانع. بالنسبة للعلماء في مجتمعاتنا النامية، لابد أن يتخلصوا من رواسب الطريقة القديمة في عمل الأبحاث، لابد أن يعملوا تغييراً حقيقياً mind shift فبدلاً من التركيز على التخصص، عليهم أن ينتقلوا إلى التكامل بين التخصصات العلمية، ومن البحث في ظاهرة طبيعية منعزلة إلى التعامل مع الأنظمة systems أي بشكل شمولي، فقد تكون إجابة البحث العلمي في الكيمياء موجودة لدى عالم في الرياضيات، أو الأحياء، وقد تكون إجابة عالم أحياء النباتات لدى عالم أحياء الحيوانات. وهكذا فإن العلماء لابد أن يتخلوا عن أسلوب العمل الفردي، ويعتادوا طريقة العمل الجماعي وأن يكونوا أعضاء فاعلين في فرق البحث حتى يترسخ مفهوم الفرق البحثية. ولعل أفضل حل يطبق حالياً في العالم في هذا الاتجاه هو أن تتبنى كل جامعة مبادرة إنشاء مراكز التميز البحثية في مجال تنموي محدد. كما أن العلماء لا ينبغي أن يبقوا فقط في معاملهم، بل عليهم أن يقوموا بتوعية المجتمع بأهمية العلوم الأساسية من خلال وسائل الإعلام وأنشطة العلوم الترفيهية في المدارس والأسواق. كما ينبغي أن يعطي هؤلاء العلماء أولوية للحاجات التنموية لمجتمعاتهم، مثل قضايا المياه، والحفاظ على البيئة، والغذاء والزراعة، والصحة العامة... إلخ. كنا في الماضي نتشكى كعلماء أن البحث العلمي لا يُنفق عليه بسخاء، وكذا أنه لا توجد خطة بحثية على المستوى الوطني، إلا أن الوضع الآن قد تغير إلى الأفضل، فالإنفاق على البحث العلمي في المملكة ازداد بالفعل، ووصل قريباً من المستوى العالمي (4 و2% من الناتج المحلي الإجمالي GDP)، وهناك بالفعل خطط مدروسة قامت بها وزارة التعليم العالي (برنامج مراكز التميز البحثية بالجامعات المحلية)، وأيضاً مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية (برنامج التقنيات الاستراتيجية المتقدمة). كما أن الدولة اهتمت بتحسين الوضع المادي لأساتذة الجامعات. فالكرة الآن، من وجهة نظري، هي في ملعب الجامعات، وكليات العلوم على وجه الخصوص، لكي يزيدوا مساهمتهم في تنمية مجتمعاتهم. نأمل للجميع مؤتمراً استثنائياً بمكة الخالدة يستفيدون فيه، ويذكرونه عاماً بعد عام.