كشف موقع «ويكيليكس» مؤخرا عن وثيقة سرية رفض فيها المشير طنطاوي اللجوء السياسي للقذافي في مصر، حسبما جاء في رسالة إلكترونية للباحث الأمريكي «مايكل ويلسون» الخبير في مركز «ستراتفور» للاستخبارات والتحليلات الاستراتيجية، بعث بها إلى زملائه في 10 مارس 2011، وهي: أن الجنرال عبدالرحمن الزاوي، رئيس هيئة الإمداد والتموين فى الجيش الليبي، وصل إلى القاهرة فى 9 مارس فى زيارة مفاجئة لمسؤولين مصريين من أجل هذا الطلب، ولكن قادة المجلس العسكري، بمن فيهم المشير طنطاوي، رفضوا الاجتماع معه، وأرسلوا رسالة له مفادها أن «القذافي» غير مُرَحّب به فى مصر فى ذلك الوقت. لكن ما لم يكشفه «ويكيليكس» عن اللجوء السياسي لمعارضي القذافي في مصر أهم بكثير لأنه يحتوي على قصص أغرب من الخيال، أذكر منها هذه القصة التي كنت أحد شهودها، ففي إحدى أمسيات معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1988، ألقى عبدالحميد البكوش رئيس وزراء ليبيا الأسبق، والمعارض الليبي الأشهر، واللاجئ السياسي الأبرز في مصر وقتئذ، مجموعة قصائد نالت إعجاب الحاضرين. وعقب انتهاء فقرته الشعرية التي طالت قليلا، هبط البكوش من على منصة الإلقاء ليلتف حوله مجموعة من المثقفين والدبلوماسيين العرب، وبقدرة قادر انسلت البكوش من الجميع واختفى اختفاء مريبا في العاشرة والنصف مساء، وسط ذهول عام طال الجميع، أين ذهب؟ وإلى أين؟ ومع من؟ وكيف؟ خاصة وأن أمنه الخاص وسائقه وسيارته الخاصة وعناصر تأمين مروره، كانت في حالة تأهب وانتظار لتوصيله سالما إلى منفاه الإجباري بإحدى ضواحي القاهرة الراقية. كانت العلاقات الليبية المصرية سيئة في تلك الفترة، وكانت لعبة اغتيال المعارضين السياسيين على أشدها، مما اضطر العديد منهم للهرب بأعجوبة إلى خارج ليبيا، وطلب اللجوء السياسي إلى مصر وغيرها من الدول العربية، ومنهم البكوش بطبيعة الحال الذي جاء إلى مصر سنة 1977 في عهد الرئيس أنور السادات، وأقام بها حتى سنة 2001، إلى أن تحسّنت العلاقات بين العقيد معمر القذافي والرئيس حسني مبارك، مما اضطره إلى مغادرة مصر والإقامة في دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث توارى عن الأنظار وتوقف عن الكتابة في الصحف العربية الدولية التى كان يكتب فيها مثل: الحياة والشرق الأوسط. أول محاولة اغتيال تعرض لها البكوش في القاهرة سنة 1982 ولكن السلطات المصرية أحبطت المحاولة في الحين، وألقت القبض على المتورطين فيها. وبعد سنوات قلائل من هذه المحاولة الفاشلة وكنوع من الحرب والخداع المخابراتي والإعلامي في تلك الفترة، عرض التلفزيون المصري صورا للبكوش وهو مضرج في دمائه، مقتول في بانيو الحمام الخاص بشقته، ليؤكد هذه المرة نبأ اغتياله، الذي لم تعلم عنه القيادة الليبية شيئا! ويبدو أن إتقان حبكة الاغتيال الزائف للبكوش، والرغبة في رد الاعتبار الليبي مع أحد أبرز المعارضين المطلوبين جعلت الإعلام الليبي يهلل فرحا بنجاح المخابرات الليبية في اختراق الأمن المصري والوصول إلى رأس البكوش في قلب القاهرة، دون بذل أدنى جهد للتحقق من صدق المعلومات التي تناقلتها وكالات الأنباء العالمية. في اليوم التالي خصص التلفزيون المصري حلقة مدة ساعتين، تناولت خلفيات وملابسات ونجاحات الأمن المصري في التكتيك والمراوغة في قصة اغتيال البكوش المزيفة، وعرض يومها وزير الداخلية المصري تفاصيل هذه المؤامرة كاملة في مؤتمر صحفي، وكيف أحبطت وكيف تم تضليل الإخوة في ليبيا ثم كشف زيف الخطاب الإعلامي الليبي، عن طريق إجراء حوار مطول ومباشر مع عبدالحميد البكوش نفسه، الذي ظهر عبر شاشات التلفزيون المصري سعيدا ساخرا من أن ينال منه النظام الليبي. كل ذلك كان حاضرا في أذهان المحتجزين من قبل الأمن داخل قاعة مستطيلة بمعرض الكتاب في تلك الليلة الليلاء من شتاء شهر «طوبة» يناير، حتى جاء الفرج في الثالثة فجرا بعد العثور على البكوش في ضيافة أحد أقربائه بضاحية مصر الجديدة القريبة من المعرض. فقد توجه البكوش إلى دورة المياه الملحقة بمكان الأمسية الشعرية، ومنها تسلل مع قريب له في غفلة من كل المحيطين به ليقابل أحد أفراد أسرته الذي وصل سرا إلى مصر مساء تلك الليلة، على وعد من هذا القريب بعودته مرة أخرى لأرض المعارض قبل انتهاء آخر فقرات المعرض، لكن يبدو أن اللقاء قد طال وعند العودة ارتبك المرور وتعقدت الأحوال فعاد البكوش مرة أخرى إلى منزل قريبه الذي أبلغ الأمن بصعوبة العودة، وكان على الأمن أن يتأكد من المكالمة ومن المتحدث، حتي يفرج عنا.