يحدث أن تتمشى يوما على شاطئ البحر بمفردك بعيداً عن صخب التكنولوجيا والمجتمع والأصدقاء، فتجتاحك موجة عالية من التفكير بكل ما هو حولك، من البحر والشجر والثمر وتناغم المخلوقات بتنوعها وعلاقاتك الاجتماعية وطموحك وعملك ودراستك انتهاء بأفكارك ومعتقداتك التي تؤمن بها أشد اليقين كالأعراف الاجتماعية التي لم تتناقش بها يوما مع أجدادك وإن تناقشت وصلت إلى طريق شبه مغلق أو مبهم المعالم والحدود. هذا ما يؤول إليه الأمر عندما تحتد عملية النقاش والحوار بين أجيال مختلفة، فكل فرد يتمسك بآرائه إن كانت مغلوطة والأهم من ذلك إذا كانت لا تتناسب مع هذا العصر وتطوراته المتسارعة يوما بعد يوم. أجل نتساءل لماذا كل هذا التمسك العقيم الذي لا ينتج سوى عن التخلف المجتمعي والفكري في المجتمع، أهناك علاقة بين ما يحدث فكريا داخل الأدمغة والذات الشخصية؟ يطلق علماء النفس على هذا الصنف من الأفراد مجتمعيا، أنهم أشخاص متعصبون فكريا أي من يحملون صفة سمة التصلب (الدجماطيقية) Dogmatisim التي تعني كما عرفها ليفين «التشبث بنمط سلوكي واحد وبدوافع وحاجات وأهداف ثابتة لا تتغير» وقد تعرض هذا المصطلح مثل غيره إلى الدراسة والبحث والتطوير، وقد جاء ويلسون بتعريف آخر في سبعينيات القرن الماضي على أنه «مقاومة التغيير والاستكانة إلى الأمن بتفضيل ما هو موروث وتقليدي في المواقف والسلوك وتشمل قياس الأصولية الدينية، والتشدد في العقوبات، وعدم التسامح إزاء الأقليات، وتفضل ما هو تقليدي، وتتبنى التفسيرات الخرافية للظاهرة العلمية». ويرى كون وتومسون أن التصلب سلوك الفرد الذي يتسم بقلة الكفاءة الإنتاجية، وضعف التخيل، وقلة الحيلة والعجز عن فهم العلاقات المعقدة، وتكاملها بطريقة بناءة، والميل لترك الميدان عندما تتأزم الأمور، والمدى المحدد من الاهتمامات، والمجال الضيق في الأداء والتوافق مع المجتمع. ويتميز هؤلاء الأفراد بتعميم أفكارهم في المجتمع على فئة دون أخرى بالإضافة إلى رفضهم تغيير أفكارهم أو تعديلها حتى وإن اكتشفوا عدم صوابها، كما أن صفة التسلطية التي تغلب على سلوكهم التي تجعلهم يدافعون عن أفكارهم المتسلطة أمام الآخرين خصوصا إذا كان هؤلاء في موقع قوة وسلطة كالحكام على سبيل المثال. كما تشير الدراسات الحديثة في مجال علم النفس والطب إلى خطورة التعصب الفكري التي يعتبرها العلماء إحدى الظواهر المنتشرة بشكل كبير في المجتمع، التي يرجح سببها إلى وجود اضطرابات عقلية لدى هؤلاء الأفراد الذين يطلقون أحكاما مستعجلة أو يصدقون الإشاعات أو يتخذون قوالب معينة في التفكير والتغيير الحياتي. كما يعزو العلماء ذلك إلى أن هناك أسبابا نفسية منها أن يضع الفرد نفسه في إطار معرفي يكونه حول مجتمعه وعمن هم حوله بالإضافة إلى تكوين صورة حول المجتمعات والأفراد المختلفين عنه، مما يؤدي إلى التعامل مع الآخرين بصورة سلبية ومحكمة التي تقوده دائما إلى أساليب التفكير الخاطئة ومن هنا يحدث التمييز في معاملة الأفراد التي تؤدي بدورها إلى زرع مشاعر معينة من الكراهية والحقد تجاههم، وهذا ما يسبب صراعا قائما على مستوى شخصي أو جماعي الذي هو نتاج التعصب. إن ما وصلت إليه هذه الدراسات يؤكد لنا أن ما حدث ويحدث حولنا بشكل يومي عند النقاش أو تبيان المواقف مع من هم يختلفون معنا أو يتفقون هو أمر طبيعي مطلوب بالأخص عند تبادل كلا الطرفين أفكارا معاكسة لبعضها بعضاً، فالحقيقة اليوم لابد أن تبنى على البحث والمناقشة والتحليل والتعليل. المجتمعات الراكدة اليوم هي مجتمعات لا فائدة منها، فمتى كانت العقول ضحلة وسطحية أدت إلى مجتمعات مدنية ومتخلفة في كل مجالات الحياة، فعندما تكون في هذا العصر وأنت تعاني من فوبيا التفكير والتغيير، فأنت كما قال علي الوردي «الذي يبقى على آرائه العتيقة هو كمن يريد أن يحارب الرشاش بسلاح عنترة بن شداد».