فيما حذَّر إمام وخطيب المسجد الحرام أبناء الأمة من الوقوع في حالة الوهن واليأس والحزن والإحباط؛ جرَّاءَ ما تمرُّ به أمة الإسلام من أحداث ضخام ومتغيرات سريعة، نبَّه إمام وخطيب المسجد النبوي، إلى ضرورة تماسك بيت الزوجيَّة واستمرار الحياة السويَّة بين الزوجين، محذِّراً من ما يُبثُّ عبر القنوات الفضائيَّة من برامج ومسلسلات هابطة تهدم أخلاق الفرد والمجتمع، وتنشر الفساد وتفكِّك الأسرة وتؤدِّي إلى طلاق الأزواج. وقال إمام وخطيب المسجد الحرام، الشيخ الدكتور خالد الغامدي، في خطبة الجمعة أمس، إن أمة الإسلام تمر بمرحلةٍ تاريخيَّةٍ غير مسبوقة، حيث تتوالى الأحداث الضخام والمتغيِّرات السريعة التي تدع الحليم حيرانَ، ويزداد كيد الأعداء، وتربصهم ممَّا جعل اليأس والوهن يسري في قلوب كثير من أبناء الأمة، ودبَّ إلى بعضهم الحزن والشعور بالإحباط والعجز، وهم يرون مكر الحاقدين وقوتهم وجَلَدَهم، ويشاهدون صور القتل والدمار والتَّشريد، مع تلبُّس نفرٍ من أبناء الأمة بأفكار الخوارج والتفجير والتكفير، حتى تكونت عند فئامٍ من الناس صورة قاتمة كئيبة لحال الأمة الإسلامية ومستقبلها، وأحاطت بهم خيالات الوهم المحبط والهزيمة النفسيَّة، محذراً من الوقوع في حالة الوهن هذه، والشعور باليأس والحزن. وأشار إلى أنَّ الله سبحانه أخبر أنَّ سنته التي لا تتبدَّل، وعادته التي لا تتغيَّر أنه يُديل على عباده المؤمنين بالابتلاء والضعف، ثم تكون لهم العاقبة والنصر والتمكين، ويهلك أعداءهم ببأسه الشديد وعذابه المهين، فأين هي عاد الأولى وثمود وقوم إبراهيم وقوم ولوط وفرعون وأصحاب الأيكة وصناديد الكفر في قريش؟ أبادهم العزيز الجبار، ونصر عباده المؤمنين وأنبياءه ورسله. وأضاف «نحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم من شرقها إلى غربها لا يجوز لها أن تيأس، ولا أن تبتئس بما يفعله الكائدون والطغاة المجرمون، ولا ينبغي لها أن تقع فريسة الإحباط واليأس المهلك الذي يشلُّ تفكيرها ويعطِّل طاقاتها وقدراتها، ويفقدها الأمل والرجاء، بسبب ما تشاهدُه وتسمعُه كل يوم من مشاهد الأسى والألم والقتل التي تسهم وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي المختلفة مساهمةً فعَّالة في نشرها لتزيد من معاناة المسلمين إرجافاً وإرهاباً وإضعافاً، نعم! لا يجوز أن تشعر الأمة باليأس وقد بشرها الله تعالى بالعزَّة والنَّصر والتَّمكين، وخصَّها بخصائص كبرى وفضائل عظمى؛ ليست لأحد من الأمم ممَّا يجعلها تفخر بتكريم الله لها، وتباهي الأمم وترفع الرأس عالياً، وهي التي اختارها الله واصطفاها فتبوَّأت عنده سبحانه شرفاً عظيماً ومكانةً وفضلاً، وإنه لمن المفيد جداً نشر هذه الفضائل الربانيَّة والخصائص الشريفة العليَّة، وإظهارها لكل من يشك في نصر الله لهذه الأمَّة أو يصاب بالإحباط وفقْد الأمل، ولكي يعلم الناس كلهم أن هذه الأمة المحمديَّة هي التي يحبُّها الله ويعلي قدرها، وهي الأمة المنصورة شرعاً وقدراً عاجلاً أم آجلاً، وأنَّ ما أصابها من بلاء ومحنة وتسلُّط الأعداء ونقص في الأموال والأرزاق؛ إنما هو تمحيص ورفعة وتربية لها؛ لتقوم بما وكَّلَها الله به». وبيَّن الدكتور الغامدي أن هذه الخصائص الشريفة للأمة المحمديَّة ثابتة بنصوص القرآن والسُّنَّة، وكثيرة ومتنوعة، وأنَّ أعظمها قدراً وأثراً أنْ جعل الله محمَّداً هو نبيها ورسولها؛ فهو أعظم الرسل وأجلهم، وأمته أعظم الأمم قدراً وعدداً، وهي إن كانت آخر الأمم عدداً إلا أنها تأتي أول الأمم يوم القيامة، وهي خير الأمم وأكرمها على الله، هذه الأمة المحمدية هي أمة الوسط والعدل، جعلها الله شاهدةً وحاكمةً على الأمم، فمن أثنت عليه خيراً وجبت له الجنة ومن أثنت عليه شراً وجبت له النار، وهم شهداء الله في أرضه، كما الملائكة شهداء الله في سمائه، وكلُّ نبيٍّ يستشهد بأمة محمد، كما تشهد له أنه بلغ الرسالة كما في حديث أبي سعيد عند البخاري، وهذه الأمة المباركة اختار الله لها دين الإسلام ورضيه لها، وهو أعظم الأديان يسراً وسماحةً ومحاسنَ، ورفع عنها الحرج في العبادات والمعاملات، ووضع عنها الأغلال والآصار والرهبانيَّة الشديدة التي كانت على الأمم قبلَنا، ومن كرامتها على الله أنَّه عصمَها من أن تجتمع على ضلالة، وحفظ عليها دينها وقرآنها وسنَّة نبيِّها، فصمدت صموداً عجيباً في وجه كل محاولات الغزو الفكري والثقافي والأخلاقي، ولم يستطع أحدٌ أبداً على مر العصور والدهور أن يتمكن من تحريف القرآن والسنَّة لا لفظاً ولا معنى، ومن حاول ذلك فضحه الله وردَّه يائساً بائساً، ومن عناية الله بهذه الأمة ورعايته لها أنَّه يبعث لها على رأس كل مائة سنةٍ من الحكام والعلماء والمصلحين من يجدِّد لها دينَها، ويذكِّرها بما اندرس من أصول الملَّة والشريعة، أمَّا غيرُنا من الأمم فلا يأبه الله بهم، فلذلك وقعوا في التحريف والتبديل والضلال. وأشار إمام وخطيب المسجد الحرام إلى أنَّ قدر الله تعالى على هذه الأمَّة أن تكون أقلَّ الأمم عمراً في هذه الدنيا وبقاءً فيها؛ لكنها الأعظم بركةً في عقولها ومفهومها وتجاربها، والله سبحانه وتعالى يرزقها من حقائق الإيمان والعلوم والمعارف في فترةٍ وجيزةٍ ما تدركه الأمم الأخرى في أزمان ودهور، ومن أجل ذلك أصبحت حضارة الإسلام أعظم الحضارات بركة وخيرات وعمارة للأرض، وأزكاها وأنفعها للبشريَّة من حضارة المادة والشَّهوات والخُوَاء الروحي، وبسبب قصر أعمار أفراد هذه الأمَّة – فهي ما بين الستين إلى السبعين في الغالب – قَبِلَ الله منها القليل من العمل، وأثابها عليه الثواب الكثير المضاعف الذي تفوق به الأمم قبلَنا الأطول أعماراً، كالأجور المضاعفة المرتبة على الصلاة والحج وقراءة القرآن، وليلة القدر وصيام النوافل، والصلاة في الحرمين الشريفين وفي المسجد الأقصى. ولفت إلى أنه من تمام حفظ الله لهذه الأمَّة والعناية الإلهيَّة بها أنَّه سبحانه حماها من الهلاك العام بالغرق أو بالسنين والقحط، ولن يسلِّطَ الله عليها عدواً مِن غيرها فيتمكَّن منها ويستبيح أهلها وجماعتها، ولو اجتمع عليها مَن بأقطارها، وحفظها سبحانه من عذاب الاستئصال، وليس عليها عذاب في الأخرة، أما عذابها في الدنيا بالفتن والزلازل والمصائب، وقضى الله سبحانه أن تكون الكعبة البيت الحرام قياماً للناس وأماناً لهم وهدًى للعالمين، وجعل مسجد نبيها منارةً للعلم، وتكفَّل سبحانه بالشام وأهله، وأورث سبحانه هذه الأمة المسجد الأقصى وبيت المقدس، وجعله حقاً مشروعاً لها، وفتح سبحانه للأمة كنوز الأرض وخيراتها، وجعلها تفيض بالنعم الظاهرة والباطنة، فهي أمة مباركة كثيرة الخيرات كالغيث لا يُدرَى أولُه خيرٌ أم آخرُه. وقال الشيخ الغامدي: «إنه ثبت في مسند أحمد حديث (إنكم أمة أريد بكم اليسر)، وعند البخاري (إن هذا الدين يسر) وثبت عند الطبراني (إن الله تعالى رضي لهذه الأمة اليسر وكره لها العسر)، ومن آثار هذا التيسير والسماحة أن الله تجاوز عن هذه الأمة ما حدَّثت به أنفسها ووسوست به صدورها، ما لم تتكلم أو تعمل، وعفا عنها الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، ويسَّر لها أمر طهارتها وعبادتها، وفضَّلَها بالتيمم وجعل لها الأرض مسجداً وطهوراً، وخفَّف عنها الصلاة، فهي خمس في الفعل وخمسون في الأجر، وجعل صفوفَها في الصلاة كصفوف الملائكة، وفضَّلَها وخصَّها بالتأمين خلف الإمام والسلام، وصلاة العشاء فلم يصلها أحدٌ من الأمم قبلنا، وهدانا إلى يوم الجمعة وأضلَّ عنه الأمم الأخرى، وأكرمنا بالغذاء المبارك السحور الذي هو فصل ما بيننا وبين صيام أهل الكتاب، وأحلَّ للأمة الغنائم التي حرَّمَها على الأمم قبلَنا، ونصرَها ونصرَ نبيَّها بالرعب، فما تزال الأمم تهاب أمة محمَّدٍ وتجلُّها لما وضع الله لها من المكانة والهيبة في قلوب الخلق، فما أعظم فضل هذه الأمة المباركة وما أكرمها على الله! وبيَّن أن العبد لَيُدهَش من كثرة الفضائل والخصائص التي تفضَّل الله بها على هذه الأمة المباركة، ويعجب من تنوُّعِها وشمولِها للعبادات والمعاملات وشؤون الحياة العامة والخاصَّة، حتى إنَّ من مات يوم الجمعة أو ليلتها وقاه الله عذاب القبر، ومن مات وهو مرابط في سبيل الله أجرى الله عليه أجره إلى يوم القيامة، وحماه من فتنة القبر، وهذا فيه تسلية وبشارة لإخواننا المرابطين على الحدود والثغور؛ فهم في جهاد عظيم وثواب جزيل، فمن مات بالغرق فهو شهيد، أو مات في الحريق أو تحت الهدم أو أكله السبع فهو شهيد، ومن مات بداء البطن أو بذات الجنب أو بالسل فهو شهيد، والتي تموت في نفاسها شهيدة، ومن قتل وهو يدافع عن نفسه أو عرضه أو ماله أو سأل الله أجر الشهادة بصدقٍ بلَّغَه الله منازل الشهداء ولو مات على فراشه، وكل ذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو كرامةٌ عظيمةٌ لهذه الأمَّة . وفي المدينةالمنورة؛ عدَّد إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ الدكتور علي بن عبدالرحمن الحذيفي المصالح العظيمة التي تحصل بتماسك بيت الزوجيَّة واستمرار الحياة السويَّة بين الزوجين، مبيناً أنَّ ذلك يقي المجتمع من مفاسد وأضرار جسيمة قد تنتج بالطلاق. وقال في خطبة الجمعة «إن سنة الله تعالى وشريعته جرت باقتران الرجل بالمرأة بعقد النكاح الشرعي؛ ليبنيا بيت الزوجية تلبيةً واستجابةً لمطالب الفطرة البشريَّة من طريق النكاح لا من طريق السفاح؛ إذ إن طريق الزواج هو العفاف وامتداد العمر بالذرية الصالحة، وطريق السفاح والزنا هو الخبث وأمراض القلوب، وفساد الرجل والمرأة وذل المعصية، وآفات الحياة والذهاب ببركتها والخلل في الأجيال، مورداً الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما جاء من حديث الإسراء والمعراج: «ثم مضت هنيةٌ فإذا أنا بأخونةٍ عليها لحم مشرَّح ليس يقربها أحد، وإذا أنا بأخونةٍ أخرى عليها لحم قد أروحَ وأنتَنَ عندَها أناسٌ يأكلون منها، قلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء من أمتك يتركون الحلال ويأتون الحرام». وأضاف: إن بيت الزوجية بيتٌ يحتضن الذرية ويحنو عليهم ويرعاهم ويعلمهم، وأبوَّة وأمومة تعدُّ الأجيال للقيام بأعباء الحياة، ونفع المجتمع ورقيه في كل شأن، وتوجه إلى كل خلق كريم وتمنّع من كل خلق ذميم، وتربي على الصالحات للدار الآخرة والحياة الأبدية، ويقتدي الصغير بما يرى فيتأثر بما يشاهد ويسمع، حيث لا قدرة له على قراءة التاريخ وأخذ العِبَر منه والقدوة. وشدَّد إمام وخطيب المسجد النبوي على أنَّ عقد الزواج ميثاق عظيم ورباط قوي وصلة شديدة، وقال المفسرون: إن ذلك الميثاق الغليظ عقد النكاح، وهذا العقد اشتمل على مصالح ومنافع للزوجين، مصالح للأولاد ومصالح ومنافع لأقرباء الزوجين، ومنافع ومصالح للمجتمع في الدنيا والآخرة، لا تعدُّ ولا تُحصَى. وأكد أنَّ نقض عقد الزواج وإبطال ميثاقه وقطع حبل الزوجيَّة بالطلاق يهدم تلك المصالح والمنافع كلها، ويقع الزوج في فتن عظيمة تفتره في دينه ودنياه وصحته، وتقع المرأة بالطلاق في الفتن أشدَّ مما وقع فيه الزوج، ولا تقدر أن تعيد حياتها كما كانت، وتعيش ندامة لاسيما في هذا الزمان الذي قلَّ فيه الموافق لحالها، ويتشرَّد الأولاد ويواجهون حياة شديدة الوطأة، تختلف عمَّا كانت عليه، فيفقدون كل سعادة تبتهج بها حياتهم، ويكونون عرضةً للانحراف بشتى أنواعه ويتضرر المجتمع بالآثار الضارة التي تكون بعد الطلاق، وتستحكم القطيعة للأرحام، وتحصل مفاسد وأضرار عديدة لاتحصى. وأرجع كثرة حالات الطلاق في هذا الزمان إلى أسباب عديدة واهية وعلل واهمة، من أكبرها الجهل بأحكام الطلاق في الشريعة، وعدم التقيد بالقرآن والسنَّة، مؤكداً أن الشريعة الإسلامية أحاطت عقد الزواج كل رعاية وعناية، وحفظته بسياج من المحافظة عليه لئلا يتصدَّع وينهدم ويتزعزع أمام عواصف الأهواء؛ لأنَّ سبب الطلاق قد يكون من الزوج وقد يكون من الزوجة، وقد يكون من بعض أقاربهما، فعالجت الشريعة كل حالة فأمر الله سبحانه وتعالى الزوج أن يعظِّم عقد الزواج. ودعا الزوجين إلى ضرورة المسارعة في إصلاح أي خلافٍ يحصل بينهما في بدايته؛ لئلا يزداد ضرره، مشيراً إلى أنَّ من أهم عوامل بقاء الزوجيَّة الإصلاح بين الزوجين من أهل الخير المصلحين حتى يتحقَّق لكل منهما حقه الواجب له على صاحبه، موضحاً أن الصبر والتسامح والعفو تُزيَّن به الحياة، ويكسوها البهجة والسرور والجمال، وتندمل به جراح الخلاف في مصاعب الحياة المتعدِّدة. وقال في بيان أسباب دوام الزواج، إن من بينها تقويم الزواج ما اعوجَّ من أخلاق المرأة بما أباحه الشرع وأذن فيه.