قبل عقدٍ من الزمان، تحدث خالد الفيصل عن المنهج الخفي في نظامنا التعليمي، وكان ذلك التصريح بمنزلة الحجر الذي حرّك ركود القناعة البليدة بسلامة مناهجنا، وظل ذلك الحجر الثقيل يحرك الراكد، ويثير الأسئلة، حتى تبيّن الحق لمن كان صادقاً في طلبه، وتم إصدار عددٍ من الدراسات والمراجعات الجادة للمناهج، ولكن صلب هذه الدراسات وجوهرها الأساس تم تجاهله بشكلٍ مريب! وتم تعديل بعض الشكليات في المناهج وبعض التفاصيل التافهة، لا غير!! وفي الأسبوع الماضي عاد خالد الفيصل- في المؤتمر الذي عقده لبيان خطة الوزارة لتطوير التعليم- للحديث عن اختطاف المجتمع والتعليم، وعاد الجدل والدفاع عن التعليم، وحضرت محاولات الإنكار المعتادة، من نفس الجهات التي دافعت في السابق عن مناهجنا، واعتبرتها كاملةً منزهةً عن الخطأ والعيب!! وقد كان من الممكن أن يمضي الأمر، وتطويه الأيام، كبقية قضايانا الزوبعية التي تثار بين الحين والآخر، إلاَ أنّ ما حال دون ذلك هو أنّ خالد الفيصل هذه المرة يتحدث بصفته المسؤول الأول عن التربية والتعليم في السعودية، وهذا ما سبب الرعب والصدمة لدى أعداء تطوير المناهج وإصلاحها وتنقيتها، فأخذوا يدافعون بشكلٍ هيستيري، ويكيلون التهم لخالد الفيصل، ويحاكمون نياته، ويستدعون مصطلحات التغريب والمؤامرة والحرب على الدين، وقد شارك في هذا الدفاع البائس عن التعليم أغلب رموز الصحوة، وأنصار حركات الإسلام السياسي، والسذج من أصحاب النيات الحسنة من فئة «مع الخيل يا شقراء»، وتواصلت الكتابة بشكلٍ محموم في مواقع التواصل الاجتماعي عن محاولة تغيير مناهج الدين، وتبديل معالم الإسلام في مناهجنا، كل هذا وخالد الفيصل لم يتحدث بعد عن تغيير المناهج، أو حذف بعض مواضيعها، أو حتى تنقيحها !! فلماذا كان هذا الرعب؟ و لماذا كانت ردة الفعل الهيستيرية على كلمة «الاختطاف» التي وردت عرضاً في مؤتمر خالد الفيصل؟ إجابة هذه الأسئلة وتشعبات هذا البحث، هي ما سيحاول هذا المقال الوصول إليها. ربما يكون السبب الأول الذي جعل كلمة «الاختطاف» مرعبةً لتلك الفئات المعارضة للتطوير والإصلاح، هو أنّها صدرت من خالد الفيصل، فهؤلاء على يقينٍ تام أنّ خالد الفيصل لن يهادن ولن يجامل وهو يملك القدرة الشخصية والاعتبارية، ويتوافر على الجرأة والحزم، ممّا سيمكنه من تحرير التعليم المختطف من قبضتهم، وذلك ما سيلحق الضرر البالغ بمشروعهم السياسي، وما يتصل به من الموارد الاقتصادية الهائلة التي تمكنوا منها حينما سيطروا على التعليم، ولذلك كان الصراخ على قدر الألم، فقد كانوا يعتقدون أنّ تحرير فلسطين أسهل من تحرير التعليم من قبضتهم! وربما كان من المفيد هنا أن نتحدث عن بدايات اختطاف التعليم بمراحله المختلفة، وكيف نجح الإخوان المسلمون في خداع المجتمع والمسؤولين تحت ستار التدين ودعاوى التقوى، فتسلموا مهمة وضع كثير من المناهج الدينية في مراحل التعليم العام والجامعي، ونجحوا في الاستحواذ على جميع الأنشطة اللاصفية، حيث تمكنوا – بمساعدة فيضان فتاوى التحريم التي اجتاحت المجتمع بعد حادثة جهيمان- من إلغاء جميع الأنشطة الثقافية والفكرية والفنية في النظام التعليمي، ليخلو الميدان لأنشطتهم وأناشيدهم ليحكموا القبضة على عقول الطلبة وأفئدتهم. وللحديث عن بداية هذه السيطرة سأورد ما كتبه الدكتور علي سعد الموسى في صحيفة الوطن في تاريخ 2013/1/6 حيث كتب ما يلي: « في مدخل سبعينيات القرن الماضي كان نجم (النجم) الإخواني، كمال الهلباوي، يصعد مخترقاً فضاءات رموز الحركة الكبار، ومثيراً بوهجه وأدواته الفكرية على مأمون الهضيبي وعمر التلمساني، وكان بلا جدال، أبرز الأسماء التي تحتاجها تلك المرحلة للكرسي الأعلى في منصب مرشد الحركة. وفجأة، وخارج السائد المألوف تكتشف انتقال كمال الهلباوي إلى الرياض مغروساً في قلب نظام التربية والتعليم مستشاراً أساسياً لبناء المناهج المدرسية، وعضواً باللجنة الصغيرة الخاصة بانتداب واختيار كوادر التعليم الإدارية في مفاصل الوزارة ومناطق اختصاصها الجغرافية المختلفة. لجنة كمال الهلباوي هي نفسها من وضعت في نهاية ذات السبعينيات خرائط النشاط المدرسي بما فيها المعسكرات الطلابية والأندية الصيفية ونواة برامج الحركة الكشفية التابعة لوزارة (المعارف)، وفي تلك اللحظة من الزمن أكمل كمال الهلباوي سيطرة الفكرة الإخوانية على أهم مفصلين في التعليم: بناء المناهج ورسم الأنشطة. كان لابد أن ينتقل إلى مخططات المشروع الأعلى ليكون الاختراق الضخم حين تكتشف أن كمال الهلباوي كان العضو الرئيس المؤسس في القائمتين: هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية والندوة العالمية للشباب الإسلامي، بوصف هذين (الجسدين) ذراعاً مالياً مرناً وعملاقاً تحتاج حركة الإخوان المسلمين أن تزرعه في قلب المنجم المالي الذهبي للملايين السائلة التي تحتاجها هذه الحركة. كل هذه السيرة الذاتية لم تكن كشفاً (مصادرياً) بل جملاً مكتوبة بخط كمال الهلباوي نفسه على سيرته الذاتية» انتهى. هذه البداية التي تحدث عنها الدكتور علي الموسى سارت بشكلٍ مرن ونجحت نجاحاً مذهلاً!! حتى أصبح النشيد الرسمي لطلبة التعليم السعوديين في مراكزهم الصيفية وأنشطة جماعات التوعية الإسلامية، ومختلف أنشطة الأندية الجامعية هو نشيد الإخوان الشهير الذي يقول: إن للإخوان صرحاً/ كل ما فيه حسن/ لاتسلني من بناه/ إنّه «البنا حسن» ورغم ركاكة هذه النتفة، ورداءة لغتها، إلاّ أنّها أصبحت أيقونة الالتزام والبناء الأممي والتنظيمي لعشرات الآلاف من الطلبة السعوديين في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الميلادي المنصرم! كما أصبح كتاب «النظام السياسي في الإسلام» للإخواني محمد سليم العوا، منهجاً للثقافة الإسلامية في جامعاتنا وكلياتنا، وما زال جوهر هذا الكتاب مبثوثاً في مناهج الثقافة الإسلامية في مراحل التعليم المختلفة إلى اليوم تحت أسماء جديدة، تم اللجوء إليها لذر الرماد في العيون، هذا الكتاب الذي يلتزم بالنظرة الإخوانية للدين والدولة ويدعو إليها، كان أحد أهم مصادر النفوذ الإخواني في تشكيل نظرة أجيالٍ كاملة لمفهوم الدولة والدين، وقد قام بتدريسه قبل عقود في إحدى جامعاتنا كلٌّ من محمد المسعري وسعد الفقيه!! وقد علّق الدكتور سعود الشريم على موضوع «اختطاف التعليم» بالقول: «كبار العلماء ابتداءً من ابن إبراهيم مفتي الديار وانتهاءً بالحاليين مع أمراء ووزراء وعموم الناس، كلهم قد درسوا في التعليم، الذين يقولون إنه مختطف». انتهى وللتعقيب على الدكتور سعود الشريم أقول: إنّ هؤلاء الذين ذكرت إنّهم تخرجوا من هذا التعليم هم بين حالين، إمّا أن يكونوا تخرجوا منه قبل أن يختطفه الإخوان مثل المفتي ابن إبراهيم وغيره من السابقين، وإمّا أن يكونوا ممن كتب الله لهم النجاة من لوثة الفكر الإخواني وحركات الإسلام السياسي التي سيطرت على التعليم، وما ذكرت في تعليقك لا ينفي اختطاف التعليم. فإن لم يكن تعليمنا مختطفاً، من أين جاءت جحافل الإخوان التي نراها حولنا في السعودية في كل مكان؟ ومن أين جاء فروخ القاعدة وداعش ومن ماثلهم؟؟ للقارئ الكريم أترك إجابة هذا السؤال.