حين تمتطي صهوة سيارتك متجهاً صوب عسير، عليك أن تصطحب معك كاميرا وقلماً وأوراقاً بيضاء.. أما لماذا؟ فحتماً سوف تقف أمام منظر آسر يشد أهداب عينيك وجهاً لوجه أمام الجمال بعينه، إمّا غابة جلست باستحياء على سفح جبل فأحالته إلى قطيفة خضراء، أو بناء معماري أصيل رُضم من الأحجار أو الطين بشكل هندسي جذاب، أو جبل يقف بشموخ يناهز السحاب بارتفاعه الفارع وقامته الشامخة، أو رؤية سوق شعبي جاء إليه المتبضعون من كافة قرى عسير لشراء ما يحفل به السوق من صناعات تقليدية، وعسل شهي جمعه النحل من أكمام الأزهار وثمار الأشجار التي تُشكل في مجملها سجادة متنوعة الألوان. لذا تقف حائراً كيف تتمكن من التقاط لحظة الجمال كي لا يتسرب من أمام ناظريك، وينفلت من بين يديك كشعاع أبيض، علماً أن الذاكرة سوف تحتفظ في أرشيفها بكل تفاصيل الجمال، إلا أن الكاميرا تعيده لك ولمن حولك من أقرباء وأصدقاء في لحظة ود وصفاء. أما القلم والأوراق، فكما يقول علماء النفس إن لكل فعل ردة فعل، وحين تُشاهد الجمال فسوف يتجلّى الإبداع في أعماق نفسك، عندها تفيض مشاعرك بكلمات رقيقة أو قصائد شعرية أو خواطر ندية، وحتى لا تذهب تقوم بتدوينها في أوراقك الخاصة، كي تصبح جزءاً من تفاصيل حياتك، ألم أقل من الضروري اصطحاب هذه الأشياء الكاميرا والقلم والورقة، عندها ستكون متأهباً لأي منظر آسر، وسحابة عابرة، وهتّان هني، وعمارة بهية، وفلكلور شعبي و… و… لمّا اتجهت السيارة التي تقلنا إلى أبها بدءاً من جبال البلس -بلاد خثعم- تلك القرى المعلقة في أوردة السحاب، كنا ندرك بأن الارتفاع الشامخ للجبال جعلها أقرب مكان لاستقبال الماء المنسكب من السحاب مما أعطاها الله بيئة متنوعة تكسوها أشجار العرعر والزيتون والطلح وغيرها، لذا ليس بمستغرب أن يكون الناس هناك شعراء بفطرتهم. وتُواصل المركبة السير عبر منعطفات وانحدارات مروراً بقرى البشائر والكثير من القرى السروية الفاتنة التي تتناثر كاللآلئ لتشكل في مجملها مدناً جذابة تحتاج إلى التفاتة من وزارة البلدية والقروية بتوسيع شوارعها وتنسيق مبانيها وتوفير احتياجاتها من الخدمات. وفي مدينة سبت العلايا يتموسق الجمال الأخاذ لتبدو كفتاة عذراء تزهو بأشجار العرعر مما تحتار في اصطياد مواطن الجمال، فكل ما تراه جميل، بعدها تكون مدينة النماص على مرمى البصر تلك المدينة التي تنام في أحضان السحاب وتزدان بمبانيها العتيقة والتي تزيد عن 400 عام وأحسن الأهالي في استثمارها بإنشاء متحف تراثي يستقطب الزوار لرؤية براعة البناء القديم، والمقتنيات التراثية التي تتوزع في جنبات متحف العسبلي بشكل جذاب، ويأخذك الجمال لتصل إلى تنومة التي تشبه إلى حد كبير الوردة التي تحتضنها الجبال من كل الجوانب لتضوع المكان بشذا أخاذ، جبالها الشامخة وصخورها المتباينة تجعلها متفردة في شكل بيئتها. ونغذ السير مروراً من بلاد باللسمر التي أعتبرها اكتشافاً سياحياً جديداً بما تمتلكه من غابات كثيفة تملأ العين بهجة والنفس ارتياحاً، ويبدو أن الطرق وصلت إلى تلك الغابات منذ فترة ليست بعيدة وتحتاج إلى التفاتة إعلامية مع توفير الخدمات التي يحتاجها السياح وستكون بمؤهلاتها الطبيعية موقعاً سياحياً يشدُّ إليها المصطافون من كافة أرجاء المملكة لتضارعها في الحسن والجمال باللحمر وكأنهما عروستان تختالان في ثوبين أخضرين، إذ تتوزع غاباتها في أرجاء الجبال ومن بينها غابة الضحى، الجعد، بيحان، آل عزة، وادي عيا، متنزه خارف، وينتظر الأهالي ترسية عقبة نخلين وإنشاء فرع لجامعة الملك خالد مع تجميع مراكزها ورفعها لتصبح محافظة. وعندما اقتربت المركبة من أبها البهية يكون للجمال مذاقه، وللبهاء رونقه تلك الفاتنة على قمم السروات والتي كانت في وقت مضى يُطلق عليها «هيفاء» وتحورت مع مرور الزمن إلى «أبها»، هذه المدينة تحمل كل مفردات الجمال فهي جميلة دون ماكياج، فاتنة دون تزويق، تتربع على قمم السروات لتكون عروس المصائف بما منحه الله بها ولها من جبال خضراء ومناخ معتدل وتراث عمراني جذاب، وأسواق تمتلئ بأنواع المصنوعات والمنتوجات الزراعية. وما إن حطت السيارة بالقرب من أحد فنادقها الشهيرة حتى جاءت معزوفة السماء هتّان غسل وجه المدينة. لا يمكن للسياحة أن تُحقق كعباً عالياً في سلم النجاح إلا بعد أن تتطابق أضلاع مثلث النجاح وهي أولاً: المواطن ودوره الفاعل في تنمية السياحة خصوصاً رجال الأعمال وغيرهم بما اكتسبوه من مال ومن وعي عن السياحة وأهميتها في التنامي الاقتصادي والثقافي، وخلق فرص عمل لشريحة واسعة من الشباب، ويكون دورهم بالمساهمة الفاعلة في إنشاء المشاريع السياحية من فنادق ومنتجعات ومطاعم وغيرها فضلاً عن دور المواطن بالاستقبال الحسن والبشاشة والتعامل الطيب والمساعدة إن تطلب ذلك. الضلع الثاني يتمثل في الإدارات الحكومية ذات العلاقة المباشرة في توفير المشاريع الخدمية وما يجب عليها أن تقوم به في دعم السياحة من خلال إنشاء الطرق الواسعة والحدائق والملاهي، إذ لا يمكن أن تنتعش السياحة دون طريق سهل ومرصوف ومضاء ووجود مطار واسع يستقبل الزائرين على مدار العام ومن كافة مناطق المملكة ودول الخليج مع توسيع فرص السفر بزيادة عدد مقاعد السفر واعتماد رحلات إضافية خصوصاً وقت الصيف، ولا يمكن لرجل أعمال أن يجرؤ على تنفيذ مشروع دون اكتمال الخدمات المطلوبة وهذا ما يدفع الحكومة المبادرة في هذا الشأن بل أيضاً المساهمة بتسهيل إجراءات توفير الأراضي، ولا يغيب عن أذهاننا المقولة التي يرددها أهل المال إن «رأس المال جبان» وهذا صحيح إلا أن من الوفاء من رجال الأعمال تنفيذ مشاريع في مساقط رؤوسهم وهذا واجب من أجل وطنهم أولاً، ولأهلهم ثانياً. أما الضلع الثالث فأظن أن الهيئة العليا للسياحة تتحمله سيما وأنها أخذت على عاتقها تحسين وتطوير السياحة وهذا الذي نلحظه من خلال البرامج والخطط التي تنفذها وطرائق التوعية والتبصير والتسهيل ولم تتوقف عند هذا الحد بل تقوم أيضاً بدعم المشاريع ذات العلاقة في تهيئة المواقع التراثية والأثرية كما هو مشاهد في قرية رجال ألمع وقرية ذي عين في الباحة، هذا إذا ما أخذنا في الاعتبار الهدف الذي تود تحقيقه ويتمثل في الاهتمام بالسياحة في المملكة، وذلك بتنظيمها وتنميتها وترويجها، والعمل على تعزيز دور قطاع السياحة وتذليل عوائق نموه، باعتباره رافداً مهماً من روافد الاقتصاد الوطني، وذلك بما يتوافق مع مكانة المملكة وقيمها، والاهتمام بالآثار والمحافظة عليها وتفعيل مساهمتها في التنمية الثقافية والاقتصادية، والعناية بالمتاحف والرقي بالعمل الأثري في المملكة. السياحة لن يكون لها موضع قدم ما لم تتناغم الأضلاع الثلاثة وتتطابق، وبطبيعة الحال، إذا حدث خلل في ضلع سوف يختل التوازن وسيكون حالنا كمن ينفخ في قربة مثقوبة، لذا لا يختلف اثنان في كون السياحة أصبحت في الفترة الراهنة صناعة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من مفاهيم ومدلولات، لما تدره من مبالغ مالية تُسهم في رفع اقتصاد الدول، ويعتبر الإنسان المدخل الرئيس الذي من خلاله يمكن أن تتنامى السياحة أو تتراجع بمستوى وعيه ومدى اهتمامه، وتتفاوت الدول من حيث عدد السياح، وحجم العائد الاقتصادي، بحسب قدرتها على التخطيط السليم في مجال الاستقطاب السياحي، ويبرز هنا دور وسائل الإعلام والاتصال واستثمار التكنولوجيا في رفع الوعي السياحي لدى الأفراد. الإعلام والسياحة وجهان لعملة واحدة، إذ لا يمكن أن تتحقق سياحة دون ترويج سياحي، وفي الوقت نفسه لا يمكن وجود إعلام ناهض دون سياحة حقيقية، فكل منهما مكمل للآخر، ولذلك تبنت الهيئة العليا للسياحة برنامجاً يتم من خلاله استقطاب الإعلاميين من كافة المناطق ليقفوا على شواهد التنمية والمراحل التي قطعتها المملكة في مضمار السياحة، وكان لكتَّاب الرأي في الصحف السعودية حضورهم لفعاليات وبرامج صيف السعودية 1435ه، الذي انطلق من مدينة أبها الأسبوع الماضي تزامناً مع مبادرة «عسير.. وجهة سياحية رئيسة على مدار العام». واستهل الإعلاميون زيارتهم بمركز رعاية الأطفال المعاقين بمنطقة عسير الذي يُعد أحد المشاريع الإنسانية لخدمة فئة تحتاج العون والمساعدة، وكان الزميل الدكتور صالح الحمادي، مدير المركز، في مقدمة مستقبلي الوفد حيث شرح لهم أهداف وأعمال المركز والخدمات التي يقدمها المتمثلة في برامج الرعاية والعلاج والتعليم والتأهيل والتدريب والتوعية والخدمات الاجتماعية والاستشارية للأطفال المعاقين وذويهم، والجميل في المركز الإدارة التشغيلية على أيدي فتيات سعوديات مؤهلات يقمن بواجب العمل من أجل هذه الفئة التي تحتاج المساندة، وكان لسان حال أعضاء الوفد الدعاء بأن يشفي الله المرضى ويعيد لهم صحتهم وعافيتهم وابتسامتهم. بعدها امتطى الجميع صهوات السيارات لتضرب بأكبادها الحديدية نتوءات الجبال وصولاً إلى قرية المفتاحة التي بنيت على أنقاض قرى قديمة تهدمت فأضحت المفتاحة لوحة فنية جميلة تبهج الناظرين بمبانيها المقتبسة من الطراز المعماري العسيري العريق ومكتسية بألوانها الزاهية ويزينها المسرح المفتوح الذي يستوعب لأكثر من 3800 مقعد وتقام عليه الاحتفالات الثقافية والفنية وغيرها، فضلاً عن قاعات خُصصت للفنانين التشكيلين لممارسة نشاطهم الفني. وعلى مقربة من القرية سوق الثلاثاء الذي يعج بالبائعين والمشترين حيث تباع فيه المنتجات التقليدية كالمصنوعات الجلدية والمفروشات ولوازم الزراعة التقليدية والفواكه الموسمية والسمن والعسل البلدي، ورغم زحف الأسواق الجديدة والمولات الكبيرة إلا أن سوق الثلاثاء ما زال ينبض بالدهشة. وكما هو معروف لا يهم السائح السوق الحديث أو المباني الإسمنتية، يهمه استشعار الحس الجمالي لأي منطقة أو مدينة، والعسيريون فنانون بطبيعتهم ويتجلى ذلك في مبانيهم ونقوشهم ومفردات حديثهم وحسن استقبالهم للضيف، وكم هي ممتعة تلك العبارة المملوءة بالوجدان «مرحباً ألف». وللمرأة في عسير دورها الفاعل في إضفاء لمسة الجمال من خلال النقوش والرسوم التي ابتكرتها وأصبحت واحدة من شواهد العمارة التقليدية في عسير.