أعاد زلزال جازان وتوابعه إلى الأضواء، السياحة الجيولوجية وخريطتها التي مازالت مجهولة لكثيرين، ليس فقط في الداخل بل وفي الخارج. وسلط التقرير الذي صدر أمس عن هيئة المساحة الجيولوجية بخصوص النشاط الزلزالي الذي شهدته منطقة جازان على مدى الأيام الماضية، الأضواء على ثروة جيولوجية تمتلكها المملكة، كرصيد استراتيجي للسياحة، لم تمسه يد البشر حتى الآن. ويفتح الزلزال صندوق أسرار السياحة الجيولوجية، التي سكتت عنها هيئة السياحة والآثار، ولم توظفها جيداً، على الأقل خارجياً. فكثير من السياح من أنحاء العالم، لن يكفوا عن التدفق بالآلاف على تلك المناطق البكر من المملكة، التي تتمتع بقيمة عالمية، ليس فقط على صعيد تكويناتها الطبيعية المميزة، بل ولقيمتها الاقتصادية، خاصة على صعيد الاستجمام والاستشفاء، الأمر الذي يبدو بعيداً عن منال الاستثمار السياحي إلى الآن. فبعد الهزة الأرضية التي شهدتها بيش يوم الخميس الماضي، وبلغت قوتها 5.1 درجة بمقياس ريختر، وما أعقبها من هزات بلغ عددها 27 هزة تراوحت قوتها بين درجة و 3.7 درجة كان آخرها الهزة التي شهدها فجر أمس، يترقب المهتمون بالشأن السياحي الجيولوجي، صدور التقرير التفصيلي الذي وعدت به الهيئة وسيغطي تفاصيل الصدوع النشطة والحديثة الواقعة في منطقة جازان على وجه التحديد لتوصيف صخور الدرع العربي القديمة والصخور الرسوبية والبركانية وحقول الحمم البازلتية المخروطية. لكن قد يكون من المفيد أيضاً، أن تكشف هيئة السياحة عن كيفية استفادتها من هذا الواقع الثري بإمكانياته، والجاهز للاستغلال بمجرد توفر الخطط والبرامج السياحية التي تجني القليل من المكاسب بتركيزها فقط على المهرجانات والتسوق. ومعلوم أن جازان من المناطق المهمة على خريطة السياحة الجيولوجية، سواء لوجود كهوف رسوبية أو ينابيع حارة، فضلاً عن التشكيلات الصخرية المميزة فيها. لكن الأمر لا يقتصر على جازان، بل تمتد هذه التشكيلات الجيولوجية في عدد من مناطق المملكة على امتداد البحر الأحمر من الجنوب إلى الشمال مع تنوع المناطق الجغرافية للمملكة. وتبدو أهمية هذا النشاط المعلوماتي لهيئة المساحة الجيولوجية من منطلق دعم السياحة وتوفير البيانات الحيوية التي تهم السياح والعاملين في النشاط السياحي بصفة عامة، حيث إن الإلمام بطبيعة المناطق المختلفة وتكويناتها الجيولوجية يقلل من المخاطر المحتملة ويتيح استغلالاً أمثل لتلك المناطق. وتشكل السياحة الجيولوجية رافداً مهماً من روافد النشاط السياحي لما تتيح من عوامل جذب للسياح سواء من الداخل أو الخارج. وعلى الرغم مما تحفل به المناطق ذات الخصوصية الجيولوجية من أهمية خاصة للسياح المحبين للمغامرات والاستكشاف، والراغبين في تحصيل خبرات حقيقية حول الطبيعة وثرائها، فإن المتوفر في تلك المناطق حتى الآن من ترتيبات لوجستية لا يعد مناسباً لقيمتها الحقيقية. ولاشك أن هذا يُعد من العوامل التي ساهمت بدرجة ما في الحفاظ على هذه المناطق البكر، كما هي دون أن تطغى عليها النشاطات البشرية، وهو ما أبقى على قيمتها. ويبدو ذلك واضحاً من واقع الإرشادات التي لفتت إليها الهيئة لكل من يرغب في ارتياد تلك المناطق، إذ يبدو أن اعتماده على نفسه ورفقته هو اعتماد كلي، بدءاً من جمع توقعات الطقس للمنطقة المرغوب في زيارتها، والتأكد من اكتمال معلوماته عن وضعها الأمني، وطبيعة الحياة الفطرية فيها خاصة ما يتعلق بالزواحف والحيوانات المفترسة عموماً، ومروراً بالاستعداد الكافي لاجتياز تلك المناطق التي يفضل أن يتم بسيارة ذات دفع رباعي، مجهزة بكافة التجهيزات اللازمة للبر من أجهزة ملاحة جغرافية GPS وإسعافات أولية وأمصال وأغذية وكميات كافية من المياه. كما تدل الإرشادات على خطورة تلك الأماكن رغم أهميتها، وتنصح بأن يكون ارتيادها محسوباً، بخاصة اصطحاب مرافقين وعدم ارتيادها منفردين مع أهمية توفر جهاز اتصال بالأقمار الصناعية في حالة عدم توفر الإرسال (الثريا). ومن المهم جداً إبلاغ شخص ما بمدة الرحلة المحتملة ليقوم بالإبلاغ عند الضرورة، كالتأخر في العودة. ويفضل وجود كاميرا لتوثيق الرحلة بالصور، مع الحفاظ على نظافة المكان لتجنب اجتذاب الحيوانات المفترسة. وتشي تلك الإرشادات بما تتسم به تلك المواقع من طبيعة تنطوي على خطورة. لكن طبيعة السياح المحبين لتلك الأماكن تجعل تلك الإرشادات مألوفة وعادية، وإن بدت لغيرهم مقلقة. وبقدر التميز الذي تحفل به تلك المناطق، وبقدر المخاطر التي تنطوي عليها، بقدر ما تثور التساؤلات حول جاهزية أجهزة الدفاع المدني والإسعاف وسائر الخدمات اللوجستية لإحياء تلك المناطق واستثمار مقوماتها وتأمين مرتاديها. فما مدى وجود تلك الجهات في المواقع ذات القيمة السياحية العالية كالينابيع الحارة والكهوف وغيرها؟ وتمثل مناطق العيون الحارة واحدة من أهم الأماكن التي يؤمها السياح، خاصة لما اشتهرت به من عناصر معدنية ذات خواص علاجية لم تستغل جيداً حتى الآن، بل بقيت على نفس هيئتها الأصلية، الأمر الذي قد يشكل نوعاً من الخطورة على مرتاديها. ومعلوم أن الينابيع الحارة تتدفق تلقائياً من مصادر المياه الجوفية، عبر صدوع صخرية في حوائط الوديان، وتخرج تحت ضغط المياه الجوفية المحورة في تلك الأماكن، من خلال شقوق صخرية. وتكثر تلك الينابيع في الأماكن المرتبطة ببراكين، وهو ما يفسر محاذاتها للبحر الأحمر، بخاصة في جنوب غرب المملكة. ومن أشهر العيون الحارة في المملكة، عين جبل ليبيا (وادي دغبج) التي تقع على بعد 31.89 كم شرق قرية الحريضة، وتصل درجة حرارتها إلى 44 درجة مئوية. وعيون روان العبيد التي تقع شمال شرق أبو عريش على وادي جازان وتصل درجة حرارتها إلى 58 درجة مئوية. أما عيون بني مالك ( وادي ضمد ) فتصل درجة حرارتها إلى 43 درجة مئوية. وثمة عين تعرف ب «عين عميقة» هي الأعلى من حيث درجة حرارتها، وتقع في الليث (منطقة مكةالمكرمة) وتبلغ درجة حرارتها 80 درجة مئوية. وعلاوة على ما تتيحه تلك العيون من استخدامات للاستشفاء بفضل درجات حرارتها وخواصها الكيميائية، فإنه يمكن الاستفادة منها في مجال الزراعة والري. كما يمكن استخلاص بعض الأحماض والعناصر الكيميائية. ولا تقتصر أهمية المناطق البكر على العيون الحارة، بل تعد الكهوف من المعالم الطبيعية النادرة التي تتميز بها مناطق عديدة في المملكة، نتيجة لتنوعها الجيولوجي. وتختلف فوهات الكهوف من حيث قطرها وتختلف في كيفية النزول إليها، إذ إن بعضها يتسم بامتداد أفقي والبعض الآخر له طبيعة رأسية. وتتباين من حيث تركيبتها الداخلية، ودرجات حرارتها، ومدى ضيقها واتساعها. لكنها في الوقت نفسه تتطلب حذراً في ارتيادها خاصة في ظل الهزات الأرضية التي تشهدها بعض المناطق، إذ قد ترفع درجة خطرها، أو تتسبب في اختلال توازن مرتاديها، ما يعرضهم للخطر إن لم يكونوا بالمهارة الكافية لارتياد تلك المناطق. وثمة عشرات من الفوائد والمزايا التي تتيحها الكهوف لمرتاديها، خاصة على الصعيد العلمي. حيث تعد سجلاً طبيعياً للمناخ والطبيعة في منطقتها، بما في ذلك أنواع الحيوانات التي تعيش فيها، والنباتات والكائنات المنتشرة بها. وتنتشر الكهوف في مناطق متنوعة تُعرف علميًا بالغطاء الرسوبي، يمثلها صخر الحجر الجيري كأكثر أنواع الصخور شيوعاً داخل الكهوف الرسوبية، وتشمل المنطقة الوسطى، والشرقية، والحدود الشمالية وتبوك، وتُعد تلك المناطق أكثر المناطق التي توجد بها الكهوف، مثل الكهوف المنتشرة في الصمان والمعروفة بالدحّل. كما توجد الكهوف الواقعة في الحرات مثل الكهوف المنتشرة في خيبر، و نشأت بسبب انسياب الحمم البركانية على المنحدرات وتشكيل أنابيب تحت سطحية كما في الصخور البازلتية (صخور الحرات)، ويضاف إليها الكهوف البحرية على ساحل البحر الأحمر. وتنتشر كهوف الحرات الأنبوبية في مواقع الحرات البازلتية الداكنة التابعة لصخور الدرع العربي في الجزء الغربي، ومن أمثلتها حرة نواصف، حرة البقوم، حرة كشب، حرة خيبر، حرة الحرة، حرة اثنين. أما الكهوف الرسوبية، فتعد من أهم الكهوف التي تجتذب السياح، نظرا لطبيعة تكوينها، حيث تمتاز بالأعمدة الجيرية الهابطة والصاعدة التي تمتد من قاع الكهف إلى سقفه، وتتسم بأحجامها الكبيرة. ومن أشهر الكهوف، كهف «أم جرسان» الذي يقع في حرة خيبر شمال المدينةالمنورة، ويعد من أكبر الكهوف في الوطن العربي، حيث يبلغ طوله 1500م، ويحتوي بداخله على موجودات أثرية من جماجم بشرية وعظام لحيوانات مفترسة وكتابات يعود تاريخها لآلاف السنين. بلغ أقصى ارتفاع فيه 12م وعرضه 45 م. كما له امتداد كبير وأكثر من فتحة بعضها نافذ لعمق يصل 25 م تقريبا. ومنها أيضاً، كهف «عين الهيت» الذي يقع في مربع الرياض بمدينة الرياض على طريق الخرج، وله مدخل يصل اتساعه إلى 74 م تقريباً بالسير على الأقدام وعمقه 180-200 م تقريباً على منحدر يتسع نزولاً، مع وجود انهيارات وانزلاقات صخرية كبيرة جداً ويعد النزول من خلالها مخاطرة، كبيرة، ويحتوي على بئر ماء بعمق 15 م تقريباً. أما كهف «دحل درب النجم» فارتبط اسمه بمكان سقوط النجوم على الأرض، وهو عبارة عن حفرة كبيرة في صحراء المجمعة الشرقية، ويتكون من تجويف واحد يصل كل من عمقه وقطره الى نحو 100 متر. ويشعر من يحاول النزول إلى داخل هذه الحفرة الكبيرة بواسطة الحبل، كأنه عنكبوت معلق على شباكه. فعند الوصول إلى الأسفل، يفاجأ المرء بشعاع الشمس اللامع البراق مضيئاً الظلمات ومنصباً على أجنحة حمام الصخور المحلقة عالياً. وثمة كهوف بحرية، تكونت بفعل تراجع الجروف البحرية المتكونة في صخور الشاطئ الهشة بتأثير حركة مياه البحر، حيث تقوم بنحت الطبقات الأضعف بمعدل أسرع من الصلبة. وتتشكل هذه الكهوف على طول مناطق الضعف فى الطبقات عند قواعد الجرف، وتنشأ عن اصطدام الأمواج بها فتتآكل الصخور القابلة للنحت مكونة نتوءات وفجوات دائرية صغيرة الحجم، ما تلبث أن تتسع تدريجياً حتى تتحول إلى حجرات وكهوف غائرة فى حافة الجرف. وتتميز هذه الكهوف باتساع فتحاتها المواجهة لفعل الأمواج وتضيق كلما اتجهنا للداخل. ومع استمرار نشاط عمليات النحت البحرى يزداد عمق الكهف فى الحافة الجرفية ما يؤدي إلى انهياره ويتحول بالتالي إلى مدخل بحري. وتبقى تلك المناطق البكر تبحث عن مكانها في استراتيجية السياحة .. لتجود بثرواتها التي لا تقدر بثمن، التي مازالت بعيدة عن أصابع الاستثمار .. دون إجابة عن سؤال بسيط: لماذا هذا الغياب؟