أحاول في هذه السلسلة التي أكتبها عن مقترحات مجلس الشورى لتعديل بعض مواد نظام المنافسات والمشتريات الحكومية، أن أسترشد بالمعيارين اللذين أشرت إليهما في مقال الأسبوع الماضي، وهما (التخفيف من حدة تأخر أو تعثر تنفيذ المشاريع الحكومية من جهة، وتنفيذها ما سلم منها من التأخر أو التعثر بجودة معقولة تُحَقق الهدف من اعتماد تلك المشاريع)، واليوم أواصل الكتابة عما أراه بخصوص تلك المقترحات. فمن بين ما اقترحه المجلس من تعديلات على النظام، تعديل المدة التي يجب أن تفصل بين تاريخ أول إعلان عن المشروع، والموعد النهائي لتقديم العروض، والتي حددتها المادة (10/ه) من اللائحة التنفيذية بثلاثين يوماً على الأقل، للمشاريع التي تقل تكاليفها التقديرية عن خمسين مليون ريال، وبستين يوماً على الأقل، للمشاريع التي تبلغ تكاليفها التقديرية خمسين مليون ريال فأكثر. إننا اليوم، وفي ظل الصرف الكبير على نفقات البنية التحتية وصيانتها، لا نشكو من قلة المشاريع، بقدر ما نشكو من كثرتها، مقابل عدم كفاية الإشراف على تنفيذها نوعاً وكمّاً وبغض النظر عن أن قرار مجلس الوزراء رقم (260) وتاريخ 1/8/1434ه عالج هذه المسألة، وتحديداً في المادة السادسة منه، إذ جعل المدة ثلاثين يوماً لكافة المشاريع مهما كانت تكلفتها، ولثلاث سنوات قادمة اعتباراً من تاريخ صدور القرار، ثم يعاد النظر في هذا الإجراء، أقول بغض النظر عن ذلك، إلا أن هذه المسألة، كما أنها ليست سبباً من أسباب تعثر المشاريع، فإنها أيضاً لم تكن عائقاً أمام الجهات الحكومية لترسية مشاريعها. ذلك إننا اليوم، وفي ظل الصرف الكبير على نفقات البنية التحتية وصيانتها، لا نشكو من قلة المشاريع، بقدر ما نشكو من كثرتها، مقابل عدم كفاية الإشراف على تنفيذها: نوعاً وكمّاً، وبالتالي فلا أعتقد أن تعديل هذه المادة بإنقاص المدة ما بين أول إعلان في الجريدة وتقديم العروض، يمكن أن يضيف أي أثر إيجابي لجهة التخفيف من تعثر المشاريع الحكومية، أو لتنفيذها بجودة معقولة. وفيما يخص السلبيات التي يراها المجلس مصاحبة للترسية على العروض ذات السعر الأقل، اقترح تضمين نصوص النظام ما يؤكد على ضرورة تقدم المتنافسين بعرضين: أحدهما فني والآخر مالي، وعند تحليل العروض، تقوم الجهة الحكومية بتحليل العرض الفني أولاً، فإن كان المتنافس مؤهلاً من الناحية الفنية، فتحت عرضه المالي، وإلا فلا. وبالمناسبة، فهذا معيار معمول به في كثير من الدول، ومن بينها بعض الدول الخليجية، وقد أثبت جدواه فعلاً في تأهيل المقاولين، إلا أن ثمة معوقات في البيئة العملية السعودية ستحد من جدوى فائدة هذا المقترح، أعني التقدم بعرضين. وتنبع تلك المعوقات من عدة أمور، أولها أن الجهات الفنية التي تضع المواصفات في الأجهزة الحكومية، لا يزال ينقصها الكثير من الخبرة والفنية والتدريب الجيد، والجدية اللازمة لوضع مواصفات تواكب الأهداف التي اعتمدت لأجلها المشاريع، وثانيهما أن الجهات الحكومية تضع كافة مواصفاتها وشروطها مكتوبة في وثيقة المنافسات التي يبتاعها المقاولون الذين ينوون الدخول في المنافسة، وما على المقاول إلا توقيع وختم الكراسة ليكون موافقاً على تلك الشروط والمواصفات. أما من ناحية التحقق من تأهيله الفني فإن نظام التصنيف يكتفي بالنسبة لتقييم المقاولين أن يكون المقاول مصنفاً في الأعمال التي يتقدم لها، ولا يجيز للجهات الحكومية أن تشترط خبرات أو سابقات عملية للمقاولين، كما لا يجيز إجراء أي نوع من التأهيل لهم قبل الدخول في المنافسة، وبالتالي فإن الجهة الحكومية تستطيع التحقق من كفاءة المقاول الفنية من تصنيفه في المجال المتقدم له، ومن موافقته على كراسة المواصفات والشروط التي اشتراها من الجهة الحكومية. وهذا التحقق لا يتطلب أي مجهود، ولا يتطلب من جهة أخرى التقدم بمظروفين. يمكن أن نقول إن هذا الإجراء، أعني التقدم بمظروفين، سيكون إيجابياً في حال كانت الخبرات العملية مأخوذة في الاعتبار كمعايير من ضمن معايير الترسية، وبأن تكون المواصفات عمومية أكثر، فيكون عرض المقاول التفصيلي هو الفيصل في الحكم على مدى معرفته بالعملية. ولقد كنت أود أن تمتد مقترحات المجلس إلى بعض مواد النظام، مثل ما ورد في المادة (25/أ) من قصر صلاحية إلغاء المنافسة على الوزير المختص أو رئيس الدائرة المستقلة، ما يزيد من تأخير البت في المنافسة، وإجراءات إعادة طرحها. ذلك أن إلغاء المنافسة يكون في أغلب الأحيان لأسباب لا يستطيع الوزير معها إلا أن يوافق على الإلغاء، كأن يكون المتقدمون غير مصنفين في الأعمال موضوع المنافسة، أو أن يكون العرض وحيداً وأسعاره أعلى بكثير من أسعار السوق، أو أن تكون العروض مخالفة لشروط ومواصفات المنافسة، وهذه أسباب ستلغى المنافسة من أجلها حتماً، وسيكون من المناسب أن تعدل تلك المادة بأن تكون صلاحية الإلغاء متوافقة مع صلاحية الترسية على الأقل. وكذلك ما ورد في المادة السادسة والعشرين من عدم جواز تفويض الوزير أو رئيس الدائرة المستقلة بصلاحية البت في المنافسة، بما لا يزيد على ثلاثة ملايين ريال، فهذا النص أرى أنه آن الأوان للنظر فيه، بأن توسع صلاحية البت في المنافسة بما يتفق وحجم سوق المشاريع الحكومية اليوم. وتبقى المشكلة في نظري التي لم يتطرق لها المجلس ولا غيره، حسب علمي، في ما كتبت عنه وكررته، ولما أزل، وهي تلك الثغرة التي تحيط بنظام التصنيف ولائحته التنفيذية الآتية من جانبين: أولهما:ما يتعلق بالمشاريع التي يجيز النظام للمقاولين تنفيذها دون أن يكونوا حاصلين بالضرورة على تصنيف في مجالها. فبموجب نصوص لائحة التصنيف، يمكن ترسية عدة مشاريع منفصلة(كل منها مشروع مستقل لوحده) في مجال واحد، قيمة كل منها أربعة ملايين ومئتا ألف ريال (حسب الحد الأعلى للمشروع الواحد الذي يجوز ترسيته بلا تصنيف)، على مقاول غير مصنف، ليفوق إجمالي قيمتها عشرات، بل ربما مئات الملايين من الريالات. ثانيهما: جانب ما يتعلق بإمكانية تجاوز المقاولين لدرجاتهم التصنيفية، وذلك عن طريق ترسية مشاريع عديدة على مقاول واحد مثلاً، بما يتعدى الحد المالي الأعلى لدرجة تصنيفه، سواءً أكان ذلك في مجال واحد، أم في عدة مجالات. وتتضح الثغرة هنا عندما نعلم أن نظام التصنيف ولائحته التنفيذية يفصلان بين المشاريع، فينظران إلى كل مشروع على أنه وحدة مستقلة، لا رابطة مالية بينه وبين المشاريع الأخرى التي هي من نفس المجال، أو من مجال آخر، حيث لم يأخذا في حسبانهما (إجمالي) قيمة المشاريع التي سَتُرسى على مقاول واحد غير مصنف. ثم تزداد الثغرة اتساعاً إذا علمنا أن آلية ترسية المنافسات الحكومية لا تشترط حصول المقاول على خبرة سابقة، بل يكفي أن يكون حاصلاً على سجل تجاري يثبت له الترخيص في المجال موضوع المنافسة. وهكذا، فنحن نجد أنفسنا بمباركة نظام تصنيف المقاولين ولائحته التنفيذية، أمام باب واسع من أبواب تعثر المشاريع وتنفيذها بجودة أقل بكثير من الجودة المستهدفة.