سألني المسؤول عن طاقم المضيفين وأنا أجلس على مقعدي في الخطوط الألمانية وكنت مسافراً إلى "فرانكفورت": أرى أنك ستغادر إلى محطة أخرى، قلت له نعم وجهتي الأساسية هي مدينة "بودابست"، العاصمة المجرية فلدي اجتماع هناك وفرانكفورت مجرد محطة عبور. قال لي "واو" مدينة جميلة ثم غاب عني لفترة وعاد ومعه كرت بريدي مكتوب عليه بعض المعلومات عن "مملكة الدانوب" كما يسميها أهلها وأكد على أنه من الضروري أن أذهب إلى مطعم يسمى "نيويورك كيف" وصار يصف لي كيف سأذهب من الفندق الذي سأسكنه (وقد كنت قلت له إنني سأكون في "السوفتيل") إلى هذا المطعم وذكر لي أنه يوجد أقدم مترو تحت الأرض في أوروبا في هذه المدينة وهو الخط الذي سيوصلني من الفندق إلى المطعم. في البداية تعجبت لهذا المضيف الألماني الذي تجشم العناء وكتب لي كل هذه المعلومات وصار يحدثني عن مدينة ليست في ألمانيا، وقد عرفت بعد ذلك أن الألمان هم أكثر السياح عددا في المجر، لكن اهتمام هذا الرجل جعلني أفكر في كيف يمكن أن يبدع الانسان عندما يعشق مهنته وكيف يشعر بالسعادة ويشعر الذين حوله وكل من يتعامل معهم بهذا المخزون من السعادة. قلت في نفسي إنها بداية خير فهذه هي المرة الأولى التي أزور فيها المجر ولأبدأ باكتشاف المدينة من المكان الذي حدده لي هذا الألماني. عندما وصلت "بودابست"، شعرت أنني في مدينة أعرفها فهي لا تختلف عن كثير من المدن الأوروبية التي زرتها من قبل لكنني كنت أفكر بجد في "البداية" وكيف سأبني خارطتي الذهنية لهذا المكان الجديد الذي أزوره لأول مرة لذلك أول شيء قمت به بعد أن وصلت إلى الفندق هو البحث عن خريطة وسؤال موظف "الكونسيرج" عن "نيويورك كيف" وحددت موقع الفندق على الخريطة وقررت أن أمشي للمطعم بدلاً من أن أستخدم "المترو" وفعلا بدأت في المشي دون تركيز فقد أتتني عدة مكالمات هاتفية أفقدتني الانتباه وفجأة وجدت نفسي خارج "الخارطة" وعجزت عن تحديد موقعي. توقفت عند ساحة مفتوحة تتوسطها نافورة كبيرة وتحيط بها مبان تاريخية عملاقة جميعها تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وهي فترة التجديد العظيمة التي مرت بها المجر وصرت أتأمل الخارطة التي في يدي وأحاول أن أقرأ عبثاً الطرقات كي أحدد المكان الذي أنا فيه لكن دون جدوى. قلت في نفسي لأستمتع بهذه المدينة الجميلة فقد لاحظت أن نسيجها العمراني مبني على سلسلة من الساحات المترابطة، فهي مدينة أفقية من النادر أن تجد فيها مباني مرتفعة، وتكوينها إنساني يشجع على المشي والتفاعل الاجتماعي. الناس في الساحات والطرقات والجو شبه معتدل يميل للحرارة في النهار ونحن نقترب من نهاية شهر مايو (نهاية فصل الربيع). قمت ومشيت قليلاً ثم رأيت رجل شرطة وطلبت منه أن يحدد موقعي على الخارطة فقام بذلك بكل سرور وقلت له أريد أن أصل إلى "نيويورك كيف" فقام بالوصف على الخريطة فهو لا يتحدث اللغة الإنجليزية لكنه عرف ماذا أريد. تابعت سيري وتوقفت قليلا للراحة، في تلك الأثناء صرت أدون ما سمعته من موظفة السفارة السعودية التي استقبلتني في المطار وهي مجرية فقد قالت لي إن "بودابست" تتكون من كلمتين "بودا" و "بست" وتنطقها "بشت" وكل منهما كانت مدينة منفصلة يفرقهما نهر الدانوب. "بودا" هي اسم لأخ ملك كان اسمه "تيلا" بينما "بشت" تعني "الفرن"، لاحظت أن "بودا" تشكل الجزء المرتفع ذا الخصائص "الطوبوغرافية" الجبلية ويوجد فيها "القلعة" التي تشرف على "الدانوب" بهدوء وكأنها تحرس المدينة. يبدو أن هذه المدينة قامت على "أسطورة" والناس تعشق الأساطير فعندما توحد شطرا المدينة تشكلت مملكة المجر، لكن في التاريخ الحضري الأوروبي العديد من المدن التي تتقابل على ضفتي نهر ولم تتحد، أحدها كانت مدينة نيوكاسل التي تواجه "جيتس هد" على نهر التاين في شمال شرق إنجلترا ولم تتحد هاتان المدينتان إلى الآن، فما الذي جعل "بودا" و"بشت" يصبحان مدينة واحدة؟ تركت هذه الأسئلة جانباً وتابعت سيري حسب الوصف وتوقفت عند مبنى كبير توقعت أنه محطة للقطارات واكتشفت أنه محطة المترو المركزية ولاحظت أن الناس تصل للمحطة من ساحة منخفضة يوجد بها محلات تجارية في الضفة الأخرى من الطريق وتشكل عصباً حركياً- حضرياً يضفي على المكان حيوية، فقلت في نفسي أتمنى أن تكون نتيجة مشروع "المترو" في الرياض هذا الحس الإنساني العالي، فمدننا بحاجة إلى هذه البساطة الحضرية التي تركز على الإنسان قبل أي شيء آخر. لا أكذبكم القول كنت أشعر بالإعياء الشديد لأنني لم أرتح أبداً فمن المطار إلى الفندق إلى التيه في شوراع "بودابست"، لكنني كنت عازماً على الوصول إلى المكان الذي طلب مني مضيف الخطوط الألمانية زيارته وقد وعدته بأنه سيكون أول مكان سأتغدى فيه، وفعلا واصلت المسير حتى وصلت إلى نهاية الشارع ولم أجد المطعم فسألت واكتشفت أنني تركت المكان خلفي وأنه على الضفة الأخرى من الطريق فعدت أدراجي حتى وجدت "نيويورك كيف". المكان مدهش من الناحية المعمارية بني عام 1894م وهم يحتفلون بمرور 120 سنة على إنشاء المطعم، طرازه "باروك" وهو طراز أوروبي تطور في القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر تتداخل معه بعض التفاصيل من عصر النهضة الإيطالية وقد اكتشفت بعد ذلك أن أغلب المباني في العاصمة المجرية مبنية بطراز مهجن "نيوكلاسيكي". تجربة الغداء في هذا المكان كانت تستحق العناء فعلاً. اكتشاف المدينة يكمن في مقدرتها على السماح لك بالمشي في طرقاتها والاندماج في نسيجها العمراني والاجتماعي لذلك عندما خرجت من المطعم قررت أن أسلك طريقاً مختلفاً للفندق، وفعلاً صرت أمشي في طريق باتجاه "الدانوب" فالفندق يطل على النهر وقلت إنني عندما ألتقي بالنهر سوف يقودني لا محالة إلى الفندق. الجزء الذي كنت أمشي فيه تابع ل"بشت" وكلما اقتربت من النهر ظهر التكوين الطوبوغرافي الجبلي ل"بودا" فهذا التشكيل المتباين لهذه المدينة يصنع عبقريتها المكانية ويجعلها قريبة من القلب فقد كنت أسير مع الإجهاد بمتعة، أتوقف هنا لأتأمل تفاصيل مبنى وأسير هناك لأبلغ كرسياً لأخذ قسط من الراحة، لكن بشكل عام كانت تجربة اكتشاف مدينة لأول مرة أزورها في غاية التفرد.