ميريل ستريب التي أُجبرت على اختيار أحد طفليها عام 1982 في فيلم "اختيار صوفي-Sophie's Choice"، والتي فجعت باختطاف طفلها الصغير عام 1988 في فيلم "بكاء في الظلام-A Cry in the Dark"، والتي لعبت أدواراً عديدة مشبعة بعاطفة الأمومة، تفعل العكس في فيلمها الجديد "أغسطس: مقاطعة أوساغ-August: Osage County" بشخصيتها القاسية المؤذية لبناتها الثلاث ولزوجها ولكل المحيطين بها؛ والتي لا تتورع عن إطلاق التعليقات الجارحة والانتقادات اللاذعة، ربما كوسيلة للدفاع عن نفسها وإنكاراً لمعاناتها الشخصية بعد اكتشاف إصابتها بالسرطان. تلعب ميريل ستريب في الفيلم دور السيدة "فيوليت ويستن" التي تعيش مع زوجها الشاعر في قرية نائية في ولاية أوكلاهوما الأمريكية، بعيدة عن بناتها الثلاث اللواتي خطت كل واحدة منهن طريقها الخاص في الحياة. وإلى جانب معاناتها مع الوحدة، تعاني أيضاً من مرض سرطان اللثة، ومن إدمانها للحبوب المهدئة، ومن طبعها الذي أصبح أكثر شراسة وأقل قدرة على احتمال البشر؛ حتى أقرب المقربين لها. ويكون الاختبار الحقيقي لها عندما زارتها بناتها بعد ظرف عائلي طارئ، لتدخل معهن في مكاشفات نفسية تحت لهيب صيف أوكلاهوما وفي مكان ضيق هو حدود بيت العائلة. يعتمد الفيلم بصورة أساسية على الحوار، وتلعب المواجهات "الجدلية" المباشرة بين الشخصيات دوراً محورياً في بناء الحكاية، ويعود ذلك إلى أن الفيلم مقتبس عن مسرحية ناجحة تحمل نفس الاسم للمؤلف تريسي ليتس. النص المسرحي بطبيعته نص حواري جدلي يعتمد على ما تقوله الشخصيات وعلى حركتها داخل نطاق مكاني محدود بخشبة المسرح، لهذا كان اعتماد هذا الفيلم، والأفلام التي سبقته بالاقتباس من مسرحيات مشهورة، مثل فيلم "غلين غاري غلين روس" لآل باتشينو وكيفن سبيسي، أو فيلم "كاهونا الكبير" لكيفن سبيسي أيضاً، على الحوار فقط لكشف مكنونات شخصياته. مسرحية "أغسطس: مقاطعة أوساغ" ظهرت أولاً عام 2007 في مسارح شيكاغو، وبعد فوزها بجائزة البوليتزر انتقلت إلى مسارح العالم، لتعرض في أكثر من ثلاثين دولة وبلغات مختلفة، محققة نجاحاً استثنائياً لمؤلفها تريسي ليتس؛ ابن الروائية الأمريكية بيليي ليتس، والذي تم تكليفه لاحقاً بكتابة سيناريو الفيلم، محافظاً على الخصائص المسرحية لنصه الأصلي؛ حيث الحوار هو البطل الأوحد. يشارك في بطولة الفيلم طاقم من الممثلين الممتازين، فإلى جانب ميريل ستريب تشارك جوليا روبرتس بشخصية الابنة الكبرى التي تزور والدتها بعد غياب طويل، مثقلة بهمومها الخاصة، بزواجها المهدد بالانهيار، وبعدم قدرتها على التحكم في ابنتها المراهقة، إلى جانب ماضيها المؤلم مع والدتها. فيما يؤدي كريس كوبر شخصية زوج شقيقة السيدة "فيوليت" المستاء من الطبع القاسي لزوجته وشقيقتها. وتؤدي جولييت لويس وجوليان نيكلسون دور الابنتين الأخريين للسيدة "فيوليت" والتي تعاني كل واحدة منهما من خيبات وتجارب مريرة مع والدتهن القاسية. يجتمع هؤلاء على مائدة واحدة برفقة أفراد آخرين من العائلة، لتبدأ رحلة الصدام بين شخصيات محتقنة تحمل الكثير من الأسرار والضغينة والحقد والألم من ماضٍ يوشك أن ينفجر في هذا الاجتماع الطارئ. اختار الفيلم، والمسرحية قبل ذلك، شهر أغسطس الحار في ولاية جنوبية حارة، ليكون "المكان" و"الزمان" بمثابة المرجل الذي تتقلب فوق حرارته شخصيات الفيلم، لتتبخر أقنعتها الزائفة وتكشف عن جوهرها الحقيقي، وتتفاعل، وتنصهر في بعضها البعض، في أجواء مشحونة بالمصادمات، واللحظات المتفجرة، الساخنة، والذروات المتتابعة، منذ بداية الفيلم وحتى نهايته. وفي فيلم ذو نفس مسرحي كهذا فإن الرهان يكون دائماً على طاقة الممثل وإمكانياته، وقد كسب الفيلم الرهان بطاقمه المميز، خاصة النجمة جوليا روبرتس التي تسجل هنا عودتها للآداءات القوية بعد غيبة طويلة، فيما تؤكد المبدعة ميريل ستريب بآدائها الاستثنائي لشخصية السيدة "فيوليت" أنها لن تكتفي بكونها أكثر ممثلة في التاريخ ترشيحاً للأوسكار "بسبعة عشر ترشيحاً حتى الآن" وذلك لأنها في طريقها نحو الترشيح الثامن عشر في الأوسكار المقبل، نظير حضورها الكبير في واحد من أفضل الأفلام التي عرضها مهرجان دبي السينمائي. لقطات من الفيلم لقطة من المسرحية الأصلية مؤلف المسرحية تريسي ليتس جوليا روبرتس