في أمسية العاشر من أغسطس من العام الماضي، اتصل مايك هولمان ( 57 عاماً) بشرطة الدوريات في مقاطعة ألاشوا بولاية فلوريدا الأمريكية وقال لهم في هدوء «لقد أطلقت النار على زوجتي بين عينيها». وكان الرقيب بيتي بريجيت، أحد رجال الشرطة الستة الذين ردوا على المكالمة. وهو صديق حميم وقديم للرقيب هولمان، وكان قد قضى الليلة التي سبقت الحادث معه في بيته يتجاذبان أطراف الحديث حول الحواسب الآلية. وقف بريجيت هناك مع رفاقه ونادى صديقه مناشداً إياه أن يلقي سلاحه ويستسلم. ولكن هولمان كان يتقدم نحوهم في سرعةوثبات شاهراً مسدسه في وجوههم، ورجال الشرطة محتمون بسيارتهم. قال بريجيت «كانت تصدر من عينيه نظرة فيها لمعة الجنون. وطلبت منه عدة مرات إلقاء سلاحه. وكنت في حالة من القلق على زملائي ونفسي». واضطر بريجيت لإطلاق عيارين من مسدسه فأصاب صديقه في مقتل. ولكنه لما فحص مسدس هولمان، وجده - لذهوله - مجرد مسدس صوت. كما اكتشف بريجيت أن صديقه هولمان لم يصب زوجته السابقة بأي أذى، ولكنه كان يعاني من أكتئاب وغير ذلك من مشاكل صحية، وأنه حاول الانتحار عدة مرات في وقت سابق من هذا العام. يقول سكوت لوغان ابن هولمان بالتبني «إننا - بكل صراحة ووضوح - لا نرى أن بريجيت أخطأ في اتخاذ قرار إطلاق النار في تلك اللحظة». ويبدو أن الضحية هولمان كان ينتابه نفس الشعور. فقد عثر على مذكرة على طاولة جهاز حاسوبه الشخصي في منزله مكتوب عليها، أعتذر لكم يا زملائي من رجال الشرطة، ولكن الأمر يختلف تماماً بالنسبة لبريجيت الذي اضطر إلى اطلاق النار بذات الطريقة على شخص آخر يرغب في الانتحار قبل 13 شهراً . فالحادثتان ليستا أمراً سهلاً بالنسبة له. وهو يقول عن ذلك «ستبقى هاتان الحادثتان في مخيلتي ما حييت. وقد ظللت أراهما في النوم كابوساً مزعجاً نغص علي حياتي. إنهما جرح لا يندمل». وتعرف هذه الظاهرة باسم«الانتحار بسلاح الشرطة»، وهي أن يقدم شخص يعاني من اضطراب عاطفي إلى إرغام الشرطة على إطلاق النار عليه لقتله. وفي كتاب ألفه أحد الخبراء عن هذه الظاهرة، قال إن حوالي 10 إلى 12 في المائة من حوادث إطلاق النار بواسطة الشرطة ماهي الا عمليات انتحارية. يقول مكتب التحقيقات الفدرالية «إف بي آي» إنه خلال عام 2003 وحده قتلت الشرطة 370 شخصاً على الأقل في إطار تنفيذ واجباتها اليومية. ودائماً ما يبرأ رجال الشرطة من تهمة القتل كما هو الحال بريجيت في كلتا الحادثتين. يقول الدكتور ألفين باوسينت أستاذ علم النفس بجامعة هارفارد «لا يريد المرء إشعاره بأنه شخص بريء . ويمكن تجاوز وخزات الضمير في مثل تلك الحوادث إذا شعرت أنك كنت تتعامل مع مجرمين محترفين وخطيرين». وغالباً ما يأتي المشتبه بهم بحركات يؤكدون فيها لرجال الشرطة أن اللحظات القادمة ستكون مفعمة بالدماء. ويعتقد المحققون أن « المنتحرين بسلاح الشرطة» يكذبون ليوهموا الشرطة بأنهم مقدمون على لحظات ماهي إلا « حياة أو موت » بالنسبة لهم؛ «إما قاتل أو مقتول» كما كان الحال مع هولمان على سبيل المثال الذي ادعى قتل زوجته السابقة لتهيئة الشرطة وإلهاب مشاعرها وجعلها على استعداد تام لإطلاق النار عليه. وقد فعلت ديان كارلستن (61 عاماً) ذات الشئ، إذ انها تعاني من بعض الاضطرابات العاطفية. فبعد ظهيرة يوم 10 يناير الماضي، ذلك اليوم الذي يصادف رحيل زوجها، سحبت ديان مسدس زوجها وخرجت من دارها في لونغمونت بولاية كلورادو الأمريكية وهي تطلق النار باتجاه رجال الشرطة، ولم تجد معها جميع التوسلات التي حاولها معها رجال الشرطة لكي تستسلم، قبل أن تهدد الشرطة بقتل نفسها. واستمرت في إطلاق النار على الشرطة، فرد عليها اثنان منهم فأرداها أحدهما قتيلة برصاصة استقرت في صدرها. يقول المدعي العام بالمنطقة كين بوك « كان كل فرد منهم يشعر بقشعريرة تسري في جسده في تلك اللحظة. وقد حاول رجال الشرطة جهدهم بأن ترمي المرأة سلاحها، ولكنها لم تفعل». وهناك أمثلة كثيرة من هذه الأحداث في المدن الصغيرة. فقد كان الشرطي مارفين وودس صديقاً حميماً لكلود ويبستر (51 عاماً) المدير السابق للسلامة العامة في مقاطعة فرانكلين بولاية فيرجينيا. ولكن عندما زار وودس صديقه في منزله في أبريل من عام 2003 إثر تلقيه مكالمة منه يطالبه فيها بالحضور، خرج له الأخير وهو يشهر مسدساً في وجهه ويحتمي بصديقه. وكانت المفاجأة كبيرة بالنسبة لوودس الذي قال «لا يمكنني وصف شعوري في تلك اللحظة، ولكنني قتلت واحداً من أعز أصدقائي». يقول ستنسيلي مؤلف كتاب « الانتحار بسلاح الشرطة » : غالباً ما يتصور رجال الشرطة نتائج أخرى لمثل تلك المواجهات. فهم من ناحية يرون أنهم أدوا ما يقتضيه الواجب وأن تصرفهم سليم تماماً، ولكنهم مثل تلك الأحداث تؤرق مضاجعهم من الناحية العاطفية حيث يتصورون حلاً أفضل من إطلاق النار على أمثال هؤلاء». ولكن لوسائل الإعلام والرأي العام رأي آخر.. فهم يعتقدون أن الشرطة تتحمل مسؤولية قتل هؤلاء الضحايا. ويستشهدون بقصة جوي شيلي الشرطي المتعاون الذي قتل برصاصه في أكتوبر من عام 2001 رجلاً في السابعة والثلاثين من عمره بعد أن صوب نحوه هذا الأخير مسدساً - كان عبارة عن لعبة أطفال - خلال مواجهة بينهما رفض فيها الأخير إلقاء المسدس «اللعبة»، فلم يتوان الشرطي عن إطلاق النار عليه ليرديه قتيلاً. ثم اتضح بعد ذلك أن الضحية كان دائم الحديث عن الانتحار. ودافع شيلي عن نفسه « أعلم أن وسائل الإعلام ستخوض في هذه القضية وتحملني المسؤولية. فهم يسمون الرجل « ضحية» في كل مقال كتبوه عن تلك الحادثة». ويحتج النقاد في العديد من الحوادث لماذا لا يحاول رجال الشرطة تعطيل المشتبه بهم أو نزع الأسلحة منهم بأية وسيلة كانت. ولكن توم فاتز، الذي تقاعد عن الخدمة في قطاع الشرطة العام الماضي، وكان أحد الثلاثة رجال شرطة اغتالوا برصاصهم رجلاً كان لا يحمل في يده سوى مدية، وبدا واضحاً أنه يريد الموت ولاشيء غيره، يرد على هذه الانتقادات بعنف ويقول « إن هذا ضرب من الجنون. لماذا لايعمد مثل هؤلاء إلى أنشوطة قوية يعلق نفسه عليها ويريحنا من مثل هذه المواجهات إذا كان فعلاً يروم قتل نفسه . فنحن قد تدربنا على التصويب باتجاه قلب الهدف حتى يمكننا القضاء على العدو بأسرع ما يمكن. وعندما يدخل الشرطي في مثل هذه المواجهات، فلا يكون أمامه سوى ثوان معدودات ليتخذ فيها قراره الحاسم». ويدافع الدكتور ديربي غلاسر رئيس وحدة الاستشارات النفسية بشرطة المقاطعة عن رجال الشرطة بقوله « يجب علينا النظر للمسألة مع وضع تلك الظروف واللحظات العصبية في الاعتبار، وليس من منظور إنسان جالس على مكتبه وأمامه وقت كبير ليقرر ما يفعله حيال حياته التي تكون في كف عفريت في تلك اللحظة، إنها مجرد ثوان تفصل بين حياتك وموتك، وليس كما يتصور هؤلاء». ورغم هذا كله، فإن رجال الشرطة يعانون كثيراً من الناحية النفسية من مثل تلك الأحداث. يقول وودس عن تجربته التي قتل فيها ويبستر « كنت خلال الأسبوع الأول بعد الحادثة في أسوأ حالاتي النفسية. كنت لا أنام طوال الليل، ولم تتوقف عيناي عن البكاء بدمع سخين. فقد وضعنا ويبستر في وضع لا نحسد عليه. ولكني لا أحمل نفسي مسؤولية ما حدث أبداً». ولعل كافة رجال الشرطة الذين مروا بمثل هذه التجارب قد عانوا مثل معاناة زميلهم وودس. أما جون بوتش جونز، الشرطي الذي أسس مكتب للخدمات الاستشارية في غينسفيل، والذي زامل بريجيت وغيره من رجال الشرطي الذين لهم علاقة بمثل تلك الحوادث، فيقول « أهم ما في الموضوع تكوين بيئة جيدة لتخفيف حدة الاكتئاب التي يعاني منها هؤلاء الرجال في أعقاب مثل تلك الحوادث. فبريجيت مثلاً لا ينكر ما عانى منه من وخزات وألم بعد الحادث الذي قضى فيه صديق له. فهو يشعر أنه قد وقع فعلاً في فخ الانتحار بسلاح الشرطة» وفي خريف عام 2002، اشتدت وطأة المعاناة من تلك الوخزات لدى شيلي، وبات يعاني من الأر ق طوال شهور بعد الحادثة التي وقعت له. فقرر ترك الخدمة بالشرطة والالتحاق بقوات الدفاع المدني. ولايزال توم فاتز يتذكر في حزن عميق تلك الحادثة التي وقعت قبل 15 عاماِ ومات على يده تيموثي وود عامل المطعم الذي يعاني من اضطرابات نفسية بسبب فصله من العمل، والذي خدع رجال الشرطة بأخذ رهينة معه ومدية على رأس الرهينة، فاضطر فاتز إلى إطلاق النار عليه لإنقاذ الرهينة من تهديد وود له بالسكين. يقول فاتز عن الضحية وود « كان رجلاً مسكيناً وطيباً، ولكن قدره قاده إلي في ذلك اليوم». ويأمل فاتز أن يتحاشى زملاؤه من رجال الشرطة مثل تلك المواقف التي أرقته وأقضت مضجعه. وهو يعلم أنه رغم تبرئة ساحتهم من تهم القتل، إلا أنه يدرك جيداً كم يعانون من نتائج تلك الأحداث. وهو يقول عن نفسه « بدأت معي المشاكل بعد عام تقريباً من وقوع الحادثة، ففارق النوم جفوني وأصابني الأرق والكوابيس أثناء النوم. وكثيراً ما أرى في النوم أن أحدهم يطعنني بسكين حتى الموت، وأحاول الدفاع عن نفسي بسلاحي الذي في يدي، ولكن مسدسي لا يعمل رغم أني أضغط على الزناد عدة مرات، فأصحو فزعاً مرعوباً وجسمي يتصبب عرقاً من فرط الخوف، وأبقى على تلك الحالة مدة من الزمن».