صحيح أن انحباس الأمطار في كثير من مناطق بلدان أوروبا الجنوبية يعد اليوم سبباً مهماً من أسباب موجة الجفاف الحادة التي تطالها منذ عدة أشهر. بل إن البرتغال وإسبانيا تشهدان جفافاً لم تريا له مثيلاً منذ حوالي ستين سنة. أما فرنسا التي تعاني هي الأخرى من هذه الظاهرة فإن المزروعات الصيفية قد تضررت كثيراً فيها بسبب الجفاف. ولكن رابطة المستهلكين في البلاد بينت في دراسة نشرت يوم التاسع من شهر أغسطس (أ.ب) الجاري أن المزارعين الفرنسيين والمشرفين على إدارة الموارد المائية على المستويين المحلي والوطني يتحملون جانباً كبيراً من مسؤولية استفحال ظاهرة الجفاف الحالية غير المعهودة. وبالرغم من أن فرنسا تعد القوة الزراعية الأوروبية الأولى قبل إسبانيا وإيطاليا وبولندا فإن المساحات المسقية فيها لا تتجاوز 5,7٪ من مجمل المساحة الزراعية المستخدمة في البلاد. ومع ذلك فإن الدراسة التي نشرتها رابطة المستهلكين الفرنسية تؤكد أن المزارعين الفرنسيين يسرفون بشكل عام في استخدام المياه لري المزروعات. وتلاحظ الدراسة أن المناطق التي يستفحل فيها الجفاف اليوم في فرنسا أكثر من غيرها تقع عموماِ في وسط البلاد وفي الجنوب الغربي وتستهلك فيها المزروعات أكثر من تسعين بالمائة من الموارد المائية المحلية العذبة. وقد وجهت رابطة المستهلكين الفرنسية أصابع الاتهام بشكل خاص إلى المزارعين المتخصصين في الذرة الصيفية وطالبت بإعادة النظر في المزوعات التي تستهلك موارد مائية كثيرة. بل إنها اعتبرت أن المزارعين الفرنسين الذين يتقاضون مساعدات ضخمة من المفوضية الأوربية هم الذين يسرفون في استخدام المياه. وهم عموماً أولئك الذين تخصصوا في زراعة الحبوب. والحقيقة أن نقابة المزارعين الكبار في فرنسا حاولت التقليل من حدة الانتقادات التي وجهت أساساً للمتخصصين في الذرة الصيفية. واعتبرت أن الرأي العام يحمل عادة صورة خاطئة عن هذا النوع من المزروعات لأنه يحتاج إلى الماء بشكل خاص في فصل الصيف حيث ترتفع درجات الحرارة وتحصل فترات الجفاف. وسعت النقابة إلى تقديم أرقام تشرح من خلالها صواب طرحها منها مثلاً تلك التي تؤكد أن إنتاج الكيلو غرام الواحد من الذرة الصيفية يحتاج إلى أربع مائة وخمسين لتراً من المياه بينما يتطلب إنتاج الكيلو غرام الواحد من القمح استخدام خمس مائة وتسعين لتراً. وهناك مزروعات أخرى كثيرة يحتاج إنتاج الكليو غرام الواحد منها إلى استخدام ألف لتر من المياه. وبينت الدراسة أيضاً أن فاتورة المياه لدى مزارعي الجنوب الغربي الفرنسي أي أولئك الذين يستهلكون أكثر من غيرهم الموارد المائية العذبة يشترونها بسعر أقل بعشر مرات مما هو عليه في شمال البلاد. وتعتبر الدراسة أن هنالك اليوم أخطاء كثيرة في سياسة الدولة الفرنسية المتصلة بإدارة الموارد المائية المستخدمة في المجال الزراعي. وتقوم هذه السياسة على منح الهيئات المحلية المتخصصة في توزيع المياه المعدة للاستهلاك استقلالية في تحديد الأسعار. وترى رابطة المستهلكين أن هذه السياسة لا تصب أبدا في مصب مفهوم التنمية المستدامة وأنه على الدولة الفرنسية إرساء سياسة متناسقة في ما يخص أسعار المياه المستخدمة في المجال الزراعي وعليها أيضاً توظيف ضريبة على الجفاف. يسهم فيها المواطنون وبخاصة كبار المزار عين الذين اتضح أنهم يسيئون إلى الموارد المائية العذبة من وراء الاستخدام العشوائي. الشجاعة ٭ من هذا المنطلق أيضا توجه اليوم كثير من المنظمات والجمعيات التي تعنى بالتنمية المستدامة في فرنسا وفي بلدان أوروبا الجنوبية الأخرى التهمة لأصحاب ملاعب رياضة الغولف باستخدام المياه استخداما غير رشيد. بل إن وزيرة البيئة الفرنسية نفسها تطرقت إلى هذا الموضوع في بداية الشهر الجاري وأكدت أنه من الضرورة التحلي بالشجاعة لاتخاذ موقف واضح بهذا الشأن. فحماة البيئة يشاطرون عموما الرأي القائل إن ملاعب رياضة الغولف تسهم فعلا في توفير مناظر طبيعية خلابة. ولكنهم يقولون إن مردودها الاقتصادي لايمكن أن يعوض بأي حال من الأحوال عن الأضرار التي تصيب الموارد المائية بسببها لاسيما في فترات الجفاف. فثمة اليوم في البلاد قرابة ألف ومئتي ملعب من ملاعب الغولف أو المهيأة لممارسة هذه الرياضة. ويستهلك كل واحد منها من المياه العذبة كل سنة ما يستهلكه سكان مدينة صغيرة تعد ثلاثة آلاف شخص. ولكن عدد مواطن العمل المباشرة التي تؤمنها ملاعب الغولف في فرنسا لايتجاوز سبعة آلاف. ومن هنا تطالب الجمعيات التي تعنى بالبيئة المستدامة الدولة بإدراج هذه القضية في نقاش عام يطرح على المواطنين وعلى البرلمان. كما تطالب بأن يكون البرلمان والسلطة الأساسية التي تتحكم في سياسة إدارة المياه على الصعيدين المحلي والوطني. وتجد الحكومة الفرنسية نفسها اليوم مضطرة إلى إدراج مثل هذه المشكلة في مشروع القانون الذي طرحته والذي سيسن في السنة القادمة في البلاد حول السياسة المائية. ولكن جمعيات الحفاظ على الذهب الأزرق ترى أن ترشيد استخدام المياه العذبة لم يعد أمرا ملحا بقدر ما هو ضرورة قصوى باعتبار أن الماء أصبح موردا نادراً في البلاد.