في مثل هذا اليوم الأول من برج الميزان، الموافق لهذه السنة السابع عشر من شهر ذي القعدة، من عام أربعة وثلاثين وأربعمائة وألف من الهجرة تمر ذكرى على هذه البلاد العزيزة، والوطن الغالي، المملكة العربية السعودية لايمكن أن تنسى، تعيدنا بمشاعرنا وشعورنا وخيالاتنا إلى جهاد المؤسس المغفور له بإذن الله المجاهد البطل الإمام الموحد، الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن -طيب الله ثراه، وجعل الجنة مأواه-، حينما وفقه الله وشد العزم وسانده الأبطال ليبدأ ذلك الجهاد الذي جمع الله به شمل الجزيرة، وإن الحديث ليلذ ويطيب، والقرائح لتتفتق عن جميل المعاني التي يختزنها الفؤاد تجاه هذه المناسبة المتجددة على الوطن الغالي، والبلد المبارك، كيف لا وهو وطن المقدسات والبلد الأمين الذي اصطفاه الله واختاره من سائر بقاع أرضه، وخصه بالميزات، وجعله مهوى الأفئدة، وموطن خليله وبلدة رسالته الخاتمة، وقد عبر عن هذه المحبة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم حيث قال وهو يغادر مكة: «إنكِ لمن أحب البقاع إليّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما خرجت»، إن هذا الشعور المتأصل في النفوس السوية لمما يجعل المواطن الحق يستشعر المسؤولية قبل الفخار والشرف، ففي الوقت الذي يشعر المواطن بفخر الاعتزاز بالوطن ومآثره ومكتسباته، والشرف بما خصه الله عز وجل من خصائص، إلا أن هذا الشرف والفخار لا يقتصر على مجرد الشعور، بل هو مسؤولية نتحمل فيها ما أوجبه الشرع من حقوق وواجبات. حقًا! لقد كان يوم استرداد الملك الموحد الباني المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود -طيب الله ثراه، وجعل الجنة مأواه- نقطة فاصلة في التأريخ المعاصر لجزيرة العرب، وتحولاً نوعيًا، تحقق فيه لهذا الوطن الآمن نعمٌ لا يقدر قدرها إلا من عرف الحقبة التأريخية السابقة لهذا التأريخ المجيد، وقرأ أو سمع عن الأوضاع السائدة في هذه الجزيرة العربية، وما كانت تعانيه من بُعْدٌ عن دين الله، وهدم لأصل الأصول، وأساس الدين توحيد الله جل وعلا، وما نتج عنه من تشرذم وتفرق وتناحر. وما من شك أنه ليس المراد بهذا اليوم مجرد حدث تأريخي مهم، أو سرد متكرر لا يعدو التفاصيل التأريخية، أو جملة من الأحداث مرّت، وإنما هي مناسبة مهمة تهدف إلى تذكيرنا بأكبر وأعظم وأجلّ نعمة تمت على هذه الجزيرة العربية في العصر الحاضر، إنها نعمة الاجتماع والتوحد والإلفة، وقيام دولة الكتاب والسنة، ونصرة توحيد الله، والعقيدة الصافية النقية، وحمايتها من عوامل الانحراف والخلل العقدي، وتحقيق هذه المقاصد، والأخذ بها غضة طرية كما أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا هو الأساس المتين الذي قامت عليه هذه الدولة السعودية، الأولى والثانية، وذلك حينما نصر الإمام محمد بن سعود -رحمه الله- جد هذه الأسرة الماجدة من آل سعود إمام الدعوة وشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب في دعوته التي ركزت على هذا الأصل الأصيل، والأساس المتين، ما هو أوجب الواجبات، وأساس دعوة الأنبياء والرسل جميعًا، بل هو الغاية التي خلق الله الخلق لأجلها، واستمر قيام هذه الدولة على هذا الأصل في جميع أدوارها، حتى هذه الحقبة الممتدة بإذن الله، ومن هنا فنحن حين نتذكر هذه الأحداث ليأتي في مقدمتها وأولى أولوياتها التذكير بهذه النعمة العظمى، وهذا الشأن المهم الذي هو من أسس العز والنصر والتمكين والاستخلاف، مصداقًا لقول الله جل شأنه:(الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُون) [الأنعام:82], وقوله جل شأنه:(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)[النور:55]، وما نتج عن هذه الصورة المثالية في وطننا المبارك من آلاء عظيمة، ونعم متجددة متوالية، أعظمها بعد تطبيق التوحيد وتحقيق العبودية لله نعمة الأمن والأمان التي صارت مضرب المثل للقاصي والداني، ونعمة الولاية الحكيمة، والقيادة الرشيدة التي تسير على خطى المؤسس، وتؤكد الأصول والثوابت، وتسعى للتطور والارتقاء على أسس متينة، وخطى حكيمة، فأثمر كل ذلك ما نعيشه من رغد العيش، ووفرة الرزق، وغيرها، وهذا هو موعود الله لمن أعلى راية التوحيد، وطبق شرع الله، والله تعالى يقول:(وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ) [الحج:40]، وشأن بهذه الدرجة من الأهمية، وحدث كتب الله به هذه النعم المتجددة لهذه البقعة المباركة لجدير بأن تذكر به الأجيال، وأن تبرز مآثر ولاة الأمر الذين كتب الله على أيديهم هذه الثمار اليانعة التي نتفيأ ظلالها، وليس هذا من قبيل الأمر التعبدي الذي يندرج في الأعياد المحدثة، وإنما هي مناسبة وطنية تأريخية ممتدة، يعد الاحتفاء بها والتذكير بآثارها من الشأن الاجتماعي، وتأتي الأبعاد الشرعية تبعًا لتكون أصولاً يذكر بها على مر العصور في جميع الأوقات، وليثمر هذا التذاكر والتواصي العناية والتأكيد بل وحماية هذه الثوابت في ظل فتن ومتغيرات ودعوات إلى إضعاف هذا الأصل أو إهماله بحجة مواكبة العصر، كما أن تذاكر هذه الآلاء يحمل في الوقت نفسه المعاني التي هي سبب للقيام بواجب تلك النعم من شكرالله، والاستزادة من فضله، والحفاظ على ما هو سبب قيامها ودوامها وزيادتها ونمائها، ومن هنا فإننا في ذكرى اليوم الوطن واسترداد الرياض على يد المؤسس -يرحمه الله- نعيش تلك الأحداث الجسام، والجهود الجبارة التي بذلها الآباء والأجداد ليكتب الله على أيديهم ما ننعم به من استقرار ورغد في العيش وأمن وطمأنينة وغيرها من نعم لا تعد ولا تحصى، ويدعونا ذلك لشكر الله تعالى عليها، وتحقيق مقومات بقائها وضمان استمراريتها، ومقاومة الانحرافات الفكرية التي تعد خللاً فيها، وحماية جناب هذا الوطن من كل من يريد به سوءا أو مكروها. كما أن المناسبة ترسخ في الأذهان أن ذلك العمل البطولي الذي قام به الملك المؤسس الباني المغفور له -بإذن الله- الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل -طيب الله ثراه، وجعل الجنة مأواه- تنتهي بأعماله صور من الفوضى والفساد والتقاطع والتهاجر، والنهب والسلب والغارات والثارات، ويكون بفضل الله ثم بجهد هذا الإمام الجهبذ، والبطل الفذّ ضد هذه الصور من الاجتماع والألفة بين القبائل المتناحرة، وتلتقي تلك القبائل وتجتمع على التوحيد والشرع المطهر، وما أعظمها من نعمة حين يكون الإسلام هو أساس الحكم والتحاكم، والكتاب والسنة هما الأصل في التنظيم والإدارة، وتصبح هذه الدولة الإسلامية التي تتخذ من القرآن الكريم دستورا تستقي منه تعاليم الهدى، وتباشير الحياة. تلتزم بتعاليمه الربانية، وتحتكم إلى الشرع الحكيم أنموذجًا حيًا، وشاهدًا واقعًا، ودليلاً قاطعًا على حفظ الله لهذه المملكة وتسديده وتوفيقه لولاة أمرها، وقد صدق الملك المؤسس وأبناؤه الله في نياتهم وأعمالهم فصدقهم الله، ومكَّن لهم، واستطاع الملك عبدالعزيز -يرحمه الله- بذلك العمل التأريخي أن يقيم أعظم وحدة في مقابل التهديدات التي كانت تواجه العالم العربي خصوصًا والعالم الإسلامي عمومًا، ولتكون ثمار هذه الوحدة أمنًا وارفًا، وعيشًا رغيدًا، وإلفة واجتماعًا، وكيانًا عظيمًا يستعصي على الزوال بإذن الله، بل صار منطلقًا لجهود متواصلة، وأعمال دؤوبة، تصب في خدمة الدين أولاً، ثم خدمة هذا الوطن الآمن، فمرور هذه الذكرى تذكرة للأجيال الحاضرة والقادمة بنعمة الله على هذه الجزيرة أن هيأ لها هذا الإمام الفذ، والقائد المصلح، ومنحه من الصفات ما مكنه من تجاوز كل العقبات ليجمع الله على يده شمل هذه الجزيرة، ولتستمر هذه النعم في أبنائه البررة وأحفاده الميامين، حيث لا نزال وسنظل -بإذن الله- نتفيأ هذه النعم. وهذه المناسبة أيضًا فرصة عظيمة للمحاسبة والتذكير بأهمية هذه الأسس والثوابت التي قامت عليها المملكة العربية السعودية، وربط الناشئة بهذه المعالم التي تحميهم من الانحراف، وتجعل مسألة الانتماء لوطنهم ومحبته، والشعور بنعم الله عليه، والوفاء بمقومات المواطنة الحقة التي هي حفاظ على الثوابت التي قامت عليها البلاد من أبرز وأهم ما ينشؤون عليه، ويستشعرونه شعورًا غريزيًا فطريًا، ويتنامى لديهم، ويتعزر بما لهذا الوطن من خصائص وميزات، وما حباه الله به من خيرات وثروات، نحمد الله عليها، ونسأله المزيد من فضله، لتكون هذه التنشئة والتربية حماية وحصانة تحميهم من الفتن والاستجابة لدعاة السوء والفرقة والاختلاف، مهما كانت المبررات والمسوغات. إننا نتذكر هذه المناسبة الممتدة ونحن نعيش ظروف الوقت، ومتغيرات الأحوال التي تعصف بالمنطقة العربية خصوصًا، والعالم أجمع، أحداث وفتن ومتغيرات، حمى الله هذه البلاد منها، وصمدت أيام عواصف المظاهرات والاعتصامات والاحتجاجات، ولم تزدها دعوات المضلين إلا توحدًا وصمودًا وثباتًا، وقدر الله -ولا راد لقدره- أن تمر بمن حولنا ليكون هذا ابتلاء لهذه البلاد، لتقف وقفاتها المشهودة، وسياساتها الثابتة التي تنبع من مسؤوليتها الإسلامية والعربية، ومن مكانتها التي بوأها الله إياها، وتكون هذه المواقف سببًا في درء كثير من النوازل والمصائب عن أشقائنا في البلاد العربية عمومًا، وفي مصر وسوريا على وجه الخصوص، وهذا لم يكن إلا محض فضل الله، فهو الذي منّ وتفضل وحمى هذا الوطن، وندين الله أن ذلك كان بما ذكرنا من هذه الأصول والأسس التي قامت عليها هذه البلاد، ونتذكرها كلما مرّت في كل عام، ومن هنا فإن التذكير بها يتأكد، وتعظم المسؤولية تجاه البيان والتوعية والتوجيه، والقرب من عالم الشباب على وجه الخصوص لكشف دعاوى المغرضين، ورد شبه المناوئين، الذين يريدون بالوطن ووحدته وولاته سوءًا، ويصدق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم وهو يذكرنا بالمخرج من فتنهم: "دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها"، والمخرج منهم ومن فتنهم وشرهم بينه الناصح الأمين بقوله: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم"، فما أعظم هذه الإمامة التي أرشدنا إليها رسولنا صلى الله عليه وسلم، وتحقق في هذه الدولة المباركة. وإننا في جامعة الوطن، الجامعة العريقة التي تحمل اسم المؤسس الأول، وانطلاقًا من استشعارنا لهذه المسؤولية، وتحقيقًا لتطلعات وتوجيهات ولاة أمرنا، وتأكيدًا على الأسس الشرعية والسياسية والوطنية والاجتماعية والاقتصادية لهذه الوحدة عقدنا مؤتمرًا دوليًا يتزامن مع هذه المناسبة، لا ليكون مجرد توصيات أو قراءة أوراق علمية، وإنما ليكون حراكًا علميًا يضع الأمور في نصابها، ويتطرق لكل عوامل الوحدة ومرتكزاتها ومتطلباتها بالأساليب العلمية التي تعزز واقع هذه البلاد الغالية، وتكون نبراسًا تحتذي به دول العالم. وبعد: هذه أبرز دلالات هذا اليوم الغالي في تأريخ مملكتنا الفتية، وهذا ما يذكرنا به مروره المتكرر، وإن حقًا علينا ونحن نتفيأ هذه النعم أن لا نسمح بأي فرصة تحدث خللاً أو نقصًا حتى ولو بالشعور والمشاعر، حتى نجعل هذه المعالم حصانة تقي مجتمعنا وأجيالنا من الانحراف بإذن الله. وإني لأغتنمها فرصة سانحة أن أشكر الله تعالى على تجدد النعم وتواليها، فهو أهل الثناء والمجد، وما بنا من نعمة فمنه وحده، ثم أثني بشكر من هم سبب في توالي وتتابع هذه الآلاء، وأرفع ببالغ الامتنان التهنئة الخالصة، والتبريكات لمقام مليكنا المفدى خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وسمو ولي عهده الأمين الأمير سلمان بن عبدالعزيز، وسمو النائب الثاني الأمير مقرن بن عبدالعزيز -حفظهم الله ذخرًا للإسلام والمسلمين، ولهذا الوطن الغالي، وأدام عليهم نعمه، وأسبغ عليهم فضله، وأتم عليهم آلاءه-، ولأبناء وطني الحبيب. والله المسؤول أن يحفظ علينا هذه النعم، ويحميها من الزوال، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. *مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية