الإعلان عن المنصب الشاغر جاء في رواية أولى لكاتبة كتبت قبلها العديد من الروايات حتى إنها أجيزت على أنها الأكثر انتشارا، والأكثر تقبلا ومبيعا في العالم، ولأن صاحبة سلسلة أعمال هاري بوتر الشهيرة (جي كي رولينغ) تعرف ذلك لكنها في (منصب شاغر) تجيء كاتبة في عوالم مغايرة لعالمها الذي اشتهرت فيه، لأن هذه الرواية الجديدة تعتبر تجربة أولى لها في الكتابة للكبار، وهي واثقة أنها ستنجح لأنها تعرف كيف تكتب، ولمن تكتب، ولماذا تكتب؟ وكأنها تعيد الإجابات عن أسئلة جان بول سارتر في كتابه (ما الأدب) الذي حاز شهرة عريضة أثناء صدوره في فرنسا، وعند ترجمته للعربية في الستينيات من القرن الماضي في العالم العربي من قبل (جورج طرابيشي – ما هو الأدب- ومن محمد غنيمي هلال – ما الأدب -). ورولينغ اجتهدت وأجهدت، اجتهدت في كتابة الرواية التي زادت على ستمئة صفحة، كما أجهدت القارئين بتسابقهم على قراءة هذه الرواية التحدي التي تطرح المغاير محل السائد، لخاصيتها التي عرفت بها، فبالتالي كان شوق القارئين لمعرفة ماهية الطرح وقدرة الكاتبة على البدء في سلوك طريق جديد. لقد استقبل الناقدون العمل على أنه قمة، وكان من المفروض أن يكون قبل هذا الوقت لكونه أثبت قدرة الكاتبة على السير في الطريق بسهولة ويسر، والوصول إلى القارئين الجادين والتقاطع مع الأعمال المماثلة وتجاوزها بشكل لافت، فهي قد عرفت التوقيت المناسب كي تتقدم بمادتها الجديدة. في كتاب "حديث الروائيين" ترجمة الروائي بدر السماري تتحدث الروائية الشهيرة في شهادة عن رغباتها وبداياتها قائلة :"كنت مقتنعة تماما أن الشيء الوحيد الذي أود عمله هو كتابة الروايات، لكن أمي وأبي وحيث إن كليهما قدم من بيئة فقيرة، وحيث لا أحد منهما وجد الفرصة للذهاب إلى الجامعة، فأخذا في اعتبارهما أن خيالي الجامح هو رهان خاسر لكسب المال، أو الحياة الآمنة.. لهذا طالما طالبا مني أن أمضي للحصول على درجة جامعية توصلني لمهنة كريمة وصنعة تقيني من الفقر، بينما رغبتي كانت دراسة الأدب الإنجليزي، وصلنا لحل تسوية بين الطرفين، فدرست تخصص اللغات الحديثة، وللأسف كان ذلك الحل لم يسعد أياً من الطرفين، ومضيت بصعوبة في إقناعهما بهذا التخصص، وبصعوبة مضيت في دراسة الألمانية وما سواها، لكني حولت مساري بعد أول منعطف لكي أدرس الأدب الكلاسيكي ولا أتذكر أني أخبرت والدي بذلك، لربما كانت المرة الأولى التي يعلمان فيها بهذا التخصص هو يوم تخرجي" ثم تواصل قائلة : "هناك تاريخ تنتهي فيه صلاحية لوم الآباء والأمهات على قيادة حياتك للاتجاه الخاطئ، هذا التاريخ هو حين تكون قادرا على القيادة بنفسك، المسؤولية عندما تتقدم وتقود عربتك بنفسك تقع على عاتقك.. تذكروا دائما أن االخوف من الفشل قد يطغى على الرغبة في النجاح مما يؤدي إلى الفشل ". مثل هذه الرؤية تؤدي الى طريق يوصل إلى هدف كان محدداً منذ البدايات، وبداياتها كانت الرغبة في كتابة الروايات والولوج إلى عالم الخيال؛ لأن الخيال في جوانيّة المبدع يمنحه الحرية حيث ينطلق كيفما وحيثما يشاء دون حسيب أو رقيب، فيتمكن من صنع شيئه الخاص الذي يومئ إلى مكنوناته المعتملة في ذاته سواء طبيعية أو مكتسبة، وغالبا ما تكون الأحاسيس بالقدرة على البوح والقول بما يعتمل في النفس بكل وضوح دون مواربة أو خجل، ولكن شريطة أن يكون لديك المخزون المعرفي الذي تستطيع بواسطته أن تقود عربتك وهي محملة بالإبداع المتنوع الذي تعي وتقدّر كيف توزعه وتعرضه على المتلقي الذي يعنى بمتابعتك متعقباً العربة أنى توجهت ليعرف ما جديدها بين حين وآخر لكونه يأمل دوما منك أن تأتيه وتفاجئه بالمتنوع، فتكون عنده مصدر معرفة ينظر إليه أبدا. ومن هنا يكون عامل النجاح الذي يشد إليه الآخرين بفضل ما يقدم من عطاء، وكانت رواية (منصب شاغر) محط الأنظار لأنها جاءت من كاتبة عرفت كيف تعمل وتبدع، وشُوهد لها عرض وطول في الساحة الثقافية العالمية من قبل، فمن عُرف عنه الجيد لن يستغرب منه الجديد لأنه يعمل على الجديد بالتتالي، والرواية في دائرتها الواسعة يموت عضو في المجلس البلدي فجأة ويكون منصبه شاغرا فتتكالب النفوس وتتنافر في صراع على من سيفوز بهذا المنصب، وتتجلى براعة الكاتبة في الشخصيات التي تصورها بدقة محددة المشاعر كيف تلجأ إلى الحيل والخدع والمهاترات، والتزييف، واللهاث حيث إنسانية الإنسان تصغر وتضمر عندما يكون العمل على البحث عن الماديات، وتداس الأخلاق ويهون الإنسان في سبيل البحث عن مكان يلمع فيه ويكون له الواجهة حتى ولو كان ذلك عن طريق الزيف والنزول إلى حفر التزلف والخداع وفقدان الكرامة.. يتماثل مع رولينغ في أعمالها (السابقة) الكاتب الأمريكي سكوت وستر فيلد في رباعيته (القبحاء، والحسان، والمتميزون، والمغمورون) حيث التعلق بالخيال العلمي وعالم الخيال حيث يتمثل في مغامرات الشخوص (تالي، وزين، شاي وديفيد) حيث الفنتازيا التي تنبش التاريخ وتعيد مجددا دون كيشوت، ورفيقه سانشو في محاربة طواحين الهواء الشهيرة. منصب شاغر هناك إجماع على نجاح التجربة لكونها جاءت من صاحبة أعمال لها مكانتها في نجاحات سابقة..