بعد الثورات العربية تحولت المجتمعات العربية إلى كتل هائلة من الفوضى الفكرية اجتاحت جميع المستويات السياسية والاجتماعية وأصبح الكثير من الأفراد يفكر بالثورة بطريقة أو أخرى وتحمّل العالم الغربي تحديداً صرف فتح شهية الفرد العربي للعمل كجزء من الفوضى العارمة التي دمرت المجتمعات العربية إما ثورياً كما حدث في دول الثورات العربية أو فكرياً كما حصل في بقية دول العالم العربي. كشفت الثلاث سنوات الماضية أن فكرة الثورات في العالم العربي ينقصها البعد السياسي والاجتماعي معاً وهذا ما جعلها تبدو لنا اليوم كفوضى حقيقية الهدف منها أن يتم من خلالها تحويل الشارع العربي إلى إطار وسلوك تنازعي وليس سلوكاً ثورياً وكان من المتوقع أن يكون التغيير أحد السمات الرئيسة التي يمكن أن تبدو في الأفق السياسي مع إشراقة أول أيام الثورات وهذا مالم يحدث. لعل السؤال القاتل هو كيف يرى العالم العربي نفسه منتظراً ثورات عربية ثم ما تلبث هذه الثورات أن تنتج تيارات الإسلام السياسي العائدة إلى القرون الوسطى...؟، قبل ثلاثين عاماً دشنت إيران موضة الثورات الدينية أو الثيوقراطية وها نحن اليوم نعيد نفس التدشين وندخل من ذات الباب هكذا وصف المفكر هاشم صالح الموقف في أحد كتبه الحديثة. لقد كان الانتظار مؤلماً على دفة الطريق المؤدي إلى الثورات ولكن المؤلم أكثر هو أن يفاجئك الشعب العربي بحجم كبير من هذا الجهل ويدعو إلى مناصرة حركات الإسلام السياسي فما حدث يدعو إلى طرح الأسئلة المهمة: كيف يحدث أن يستبدل الشعب العربي دكتاتورية بشرية، غطاؤها القمع وكبت الحريات بدكتاتورية بشرية غطاؤها الميتافيزيقا واستخدام السلوك الديني ولا يفكر كيف يخرج من الاثنتين...؟ في اعتقادي ان الثورات العربية تشكل مرحلة تطور غريبة للشعوب العربية في التاريخ فهي تستبدل الأسوأ بالأكثر سوءاً ومع ذلك فهي تصفق للأكثر سوءاً بكل حماسة فما السر الذي يقف خلف هذا الكم الهائل من الاندفاع نحو المجهول السياسي...؟، ولكن التاريخ لهذه الشعوب قد يفسر لنا بعضاً من هذه الأزمة فالشعوب العربية لم تقد عبر تاريخها تحولات فكرية لأن كل ما تفعله هو الانقياد وراء الأفكار دون تقديم تفسيرات منطقية. عندما توجه السؤال اليوم إلى مناصر مفترض لجماعة الإخوان وجماعات الإسلام السياسي وتقول له هل من الممكن أن تجيب على السؤال التالي: لماذا تناصر جماعات الإسلام السياسي...؟ في الحقيقة ان الإجابة المحتملة لهذا السؤال ستكون مفاجئة وغريبة لأن ما حدث خلال الأيام الماضية من كر وفر فكري حول مصر كشف لنا أن المجيبين على هذا السؤال نوعان. النوع الأول من عامة الشعب وصور له من قيادات الإسلام السياسي المحليين والدوليين أن الإسلام يتعرض لحرب وان أبا جهل قد بعث من جديد وان هناك من يريد ان يعيد الأصنام وأن المرتدين صاروا على الأبواب...! هؤلاء هم المتأثرون بالفكر الصحوي والدعوي وجماعات الإسلام السياسي التي عملت بصمت خلال العقود الثلاثة الماضية وقامت بعملية شحن فكري كافية لصناعة مؤيدين بسطاء غير قادرين على رؤية من يقف أمامهم لأنهم فقط يرون الفكر الديني المفبرك الذي تم استخدامه من قبل البعض مثل ممثل الأرجوز كما يسميه إخوتنا في مصر ليضلل به الشعوب. النوع الثاني وهم من يحاول أن يلعب سياسياً وهؤلاء يشكلون قيادات فعلية لتيارات الإسلام السياسي موزعة في العالم العربي هؤلاء طموحهم يتعدى إلى أن يصل إلى رغبتهم الحقيقية في الوصول إلى مواقع سياسية في بلدانهم باستخدام حصان الدين غير مكترثين بقدسية الدين وموقعه الاجتماعي بل هم من يوظفونه من أجل مصالحهم دون اكتراث في عسف المعاني المقدسة سواء للكتاب أو السنة. السؤال الأخير والذي يكفي إثارته في هذا المقال دون الخوض في تفاصيل كثيرة حوله هو لماذا يحدث هذا للشعوب الإسلامية العربية..؟ الإجابة ليست سهلة ولكنها ممكنة هناك شيء اسمه عقلانية وهناك عقل العقلانية هي المرحلة المتطورة من العقل إذا ما استطاعت أن تفرض فكرة النقد المستمر على العقل فالشعوب العربية ينقصها المنهج النقدي كي تخرج من أزمتها ولكن هذا المنهج له ضريبة يجب أن يتم تقديمها من خلال المجتمع. نحن في أزمة فكرية واجتماعية حقيقية كمجتمعات عربية لأن مواقفنا السياسية والاجتماعية أصبحت هشة إلى درجة ان إمكانية خلق الفوضى في أي مجتمع عربي إسلامي لا تتطلب سوى زراعة طوائف فكرية أو اتجاهات سياسية وهذا ما يخبرنا به التاريخ فكل أزماتنا هي نتيجة طبيعية لهذه الهشاشة الفكرية المغلفة بقدسية تحريم التساؤل والنقد والتفكير وهو ما يسمى علميا (العقلانية). لقد حرمنا من الأسئلة النقدية والاستفسارات المتزاحمة في عقولنا وعقول أطفالنا وبقيت الكثير من الأفكار والتساؤلات بلا إجابة في حياتنا مما جعل الشعوب العربية شعوباً هشة ولعل السبب الدائم الذي نحال إليه عندما نلح في السؤال هو أن هناك دائماً من هم أعلم منا ومع ذلك لا يستطيع أولئك الأعلم منا أن يجيبوا على أسئلتنا. الشعوب العربية المسلمة تغوص بجدية في أزمة أنها تعرف كل شيء وتحيل كل أمر لا تدركه إلى متاهات فكرية مخيفة وهي بارعة في نقد الآخرين عاجزة عن نقد نفسها لهذا السبب تعاني السياسة في عالمنا العربي من مرض شعوبها الدائم وأزماتها المتكررة التي تعجز عن حلها. لعل ما يجرى هذه الأيام من مناورات فكرية تعكس لنا حجم المرض الفكري في عالمنا العربي فقد عمل الكثير من دعاة الإسلام السياسي على ترويض الشعوب العربية بقدسية مفتعلة استمدت إما من المنهج أو الجماعة أو الطائفة أو الفِرقة أو الادعاء باتباع المنهج الصحيح وكلها للأسف تسجل تحت مظلة قدسية الدين وهنا تم إغراق العقول العربية وتقييدها في زوايا محددة جعلت منها غير قادرة على استخدام أي شكل من أشكال الأسئلة النقدية لأن كل متسائل في مجتمعاتنا العربية دائماً موعود بالعقاب والذنب.