دائماً أراه في الأشياء التي أريد التخلص منها كأنها غلاف أخير لروح هي ريح إلى حد أن أحداً لن يذكره... كان ذلك أثناء الحرب.. قذارة تهبط فوقنا مثل الموت.. أمي تصارع من أجل النظافة.. دائماً نذهب في أثر متشكل من فقاعات صابون بيضاً.. حين يعلو روح الأشياء الميتة كانت أمي تتلقاها برفق لتضيء وتذهب.. بعد ذلك ستجلب في طيرانها شخصاً لا يلاحظة أحد إلا حين تفوح رائحة نتنة، حينها تعلو الصيحة أين أنت يا سليم!!.. ما كان يفعله هو الانتقال من يوم إلى يوم يليه وراء مكنسة تسرح في حارات صيدا القديمة بعيداً عن مشهد السيارات.. مكنسة تشبه فراشة عجوزا تبتسم لربيع آت. هناك دائماً مكنسة تكشط أكداس القمامة، وآثام تحرق أرواحنا.. شيء ما يسحبني إلى دوائرها التي تظلم تتسع مثل قنوات لا تتعب من تعرجاتها. أسمع رنيناً، شيئاً يسقط، أبحث عن شظاياه المتكسرة، فأجد أرواحنا تهتاج بآهات أصحابها. كأن شيئاً لن يختفي من أرواح الذين قتلوا بالرصاص أو ماتوا ضرباً أو سحقوا أو شنقوا أو جوعوا وتكومت، فأصبحت جبلاً يغطي مكنسة كانت دائماً أعلى من قامة قصيرة سطعت عليها الشمس ولا كلام سوى همهمات تنحدر في ملابسه أو تختفي تحت كومة قمامة تحمل مخلفات نهار يتهاوى عند شاطئ البحر.. قمامة ومكنسة تجول الأرض كفراشة، تشاهد خيوط عصا غليظة مغطاة بهواء أسود. لطالما أثقلت يده وحفرت فيها شقوقاً عميقة. يوقف عربته التي كثيراً ما كانت تشبه غابة تحمل شظايا حياة متكسرة. يتطلع إلينا عبر أهداب دبقة قبل أن يفرغ فيها أكياس قمامة جاء بها على ظهره، وكثيراً ما تتهيج عيناه حين يرى كسرة خبز تتدلى.. يلمها، يقبلها ثم يرفعها إى جبينه مغمغماً بصيداويته المعروفة (استغفر الله). إنه الغائص المتوحد، يرى في لحظة ما لا نراه في غفلة أبعاد عمر نخلفه وراءنا كقشرة بطيخ تروي سيرة الفناء.. الزبال والقمامة، عمل شديد الاختلاف عن وظائف كثيرة منقرضة ليس فيها أي الهام. أين تلك المكنسة، التي كانت تعمل بطريقة شبه احتفالية،، لو أنها تتلوى وراء صانعي الحروب وقد غمروا العالم بقمامتهم التي لا نستطيع رؤية قمتها. وتتفسخ فيها أشكال جرم وظمأ وخبائث انجبناها. أهم الأفعال أن تصغي لروح الأشياء، أن تلتفت إليها كضوء، تبتسم، سيعتقدون أنك مجنون. ابتسم أو لا تبتسم.