٭٭ كنت صغيراً حين عاد والدي من الرياض في بداية الستينات الميلادية، وقد ذهب لإنهاء معاملة في وزارة الداخلية.. وجدته مبتهجاً منتشياً، إذْ وجد نفسه وهو يدخل الوزارة أنه يقف وجهاً لوجه مع وزيرها المهاب الأمير فهد بن عبدالعزيز، قريباً من المصعد الكهربائي.. وإذ جرى التعارف دعا والدي للركوب معه في المصعد.. حاول الاعتذار إكباراً لوزير ترتعد فرائص المواطنين في دول عربية أخرى.. بمجرد ذكر اسم وزير الداخلية!! إلا أن والدي فوجئ بلطف الرجل ودماثة خلقه فلم يتركه حتى أوصله إلى مبتغاه منهياً أمره على أسرع ما يكون. منذ تلك اللحظة كان والدي حتى صباح امس وقد بدا كثير التأثر والحزن. ينبهني إلى خصال في الملك فهد أبرزها وضوح رؤيته، النابعة من طيب سريرته، ومحبته لشعبه، وتبنيه لقضايا أمته. هذه المحاور هي التي شكلت شخصية الملك فهد، وأوضحت دوره البارز في تاريخ المملكة الحديث بمستوياته الوطنية والعربية والعالمية. ٭٭ كان قد استلم أولى مهامه في الدولة بعد وفاة الملك عبدالعزيز كأول وزير للمعارف.. كم كان رحمه الله فخوراً بهذا المنصب حتى وهو يتوَّج ملكاً على البلاد؟! فمنذ البداية أدرك أهمية التعليم الحديث في بناء المجتمع والدولة، فإذا به يدير سجالاً صحفياً مشهوداً فوق صفحات جريدة البلاد السعودية، مع أبرز مثقفي بلده، متحمساً لتوسع قاعدة التعليم الثانوي، من أجل إنشاء أول جامعة في الرياض.. وهكذا قاد الملك فهد مسيرة تحديث المجتمع ومؤسسات الدولة؛ بتوجيهها نحو الاستثمار المعرفي في الإنسان. لقد تجلى هذا بوضوح لافت منذ اشترك مع أخيه الملك الخيّر خالد بن عبدالعزيز رحمه الله في إدارة شؤون الدولة بعد وفاة الملك فيصل سنة 1975م، حيث أمسك الملك فهد بزمام ديناميكية التغيير الاجتماعي، عبر التوسع في خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية. ولم يهدأ له بال حتى قام بابتعاث عشرات الآلاف من الطلاب السعوديين للدراسة في أرقى الجامعات الأمريكية والأوروبية، بل انه رحمه الله دشّن عهد الملك خالد بتشكيل أول مجلس وزراء من نوعه إمتاز بكثرة الأكاديميين.. حتى أطلقت الصحافة الغربية على الملك فهد بأنه يقود حكومة الدكاترة. ٭٭ هذا الاهتمام الذكي بتدوير الفوائد النفطية، عبر إطلاق طاقات العقول والموارد، ما كان له أن يحدث لو لم يقم الملك فهد بقيادة عملية التنمية الواسعة في البلاد؛ حيث تواصلت أقاليم المملكة بشبكة من الطرق الحديثة اخترقت صحراءها الممتدة بطول الجزيرة وعرضها. وأقيمت المدن الصناعية في الجبيل وينبع وأنشئت المستشفيات الحديثة، وتم التوسع في إنشاء المدارس والمعاهد بعلومها المختلفة.. ومنذ بداية الطفرة البترولية سنة 1975م فتح الملك فهد المجال واسعاً أمام إفادة المواطنين من كل الفرص المتاحة في المنح والقروض إلى غير ذلك مما ارتفع بالدخل القومي للفرد. أما لؤلؤة التاج في رأس الملك فهد فقد كان مشروعه في توسعة الحرمين الشريفين. ٭٭ يرحل هذا القائد المؤسس عنا، وقد أودع الأمانة لرفيق دربه أخيه وحبيبه وخليفته.. هكذا سمعت الملك فهد قبل سنوات في قاعة الملك فيصل بالرياض وهو يتحدث عن أخيه الملك عبدالله بن عبدالعزيز.. هذا القائد الفذ الذي يستلم الراية السعودية اليوم مستكملاً دور أخوانه في بناء المملكة وتنميتها.. متخذاً من الحوار الوطني أسلوباً جديداً في إدارة متغيرات المجتمع الجديدة، بعد هبوب عواصف المتغيرات الدولية في المنطقة، ومتوجهاً ببلاده نحو آفاق الإصلاح ومأسسة هياكل المجتمع والدولة، وإفساح المجال أمام المشاركة الشعبية عبر تفعيل دور مجلس الشورى والمجالس البلدية في صياغة القرار الوطني، مولياً الشعب السعودي اهتمامه الخاص عبر مجلسه المفتوح الذي أصبح صفة لازمة بالملك عبدالله في سياسته المنفتحة على الشعب. رحم الله الملك فهد رحمة واسعة. وحفظ الله الملك عبدالله وسدد خطاه بمعاضدة أخيه ورفيق دربه سمو ولي العهد الأمير سلطان بن عبدالعزيز. ٭ عضو مجلس الشورى