إن الغلو في الدين هو من الأمور التي ذمها الإسلام ونهى عنها حيث قال الله عزَّ وجل في كتابه الكريم {قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم} (سورة المائدة الآية 77)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعون» قالها ثلاثاً، رواه مسلم. وقال أيضاً: «إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين. رواه النسائي وابن ماجه والإمام أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع. ومن المعلوم لدى القارئ الكريم أن الغلو في الدين هو مجاوزة الحد فيه فالغلو في أي أمر يعني الزيادة عليه بما ليس منه، ولا يخفى أن الغلو في الفكر يؤدي إلى الغلو في التصرف، فإن التفجيرات التي حدثت في بلادنا وتحدث في بعض البلاد الإسلامية هو نابع أساساً من غلو فكري بدأ بتفكير المسلمين ثم تتبع ذلك قتل هؤلاء السملين وغيرهم من المعاهدين تحت دعوى الجهاد في سبيل الله، ومن الملاحظ أن هذا الغلو وما ينتج عنه من قتل للأبرياء وتخريب للمنشآت وترويع للآمنين له العديد من الآثار سواء كانت على الشخص معتنق هذه الأفكار أو على أسرته من والدين أو زوجة وأبناء واخوة واخوات أو غيرهم أو كانت هذه الآثار لاسيئة على المجتمع المحيط به أو على الأمة الإسلامية بأسرها أو جزء هذه الآثار فيما يلي: 1- آثار الغلو على الأشخاص معتنقي هذه الأفكار: من الملاحظ أنه إذا اعتنق شخص هذه الأفكار التي فيها غلو في الدين كفكر التكفير أو تحريم إقامة غير المسلمين في بلاد الإسلام مطلقاً واستحلال دمائهم ونحو ذلك من الأفكار فإن صاحب هذه الأفكار يصبح في موقع يجعل النظر إليه من أفراد المجتمع فيه نوع من الاشمئزاز، لا سيما من المجتمع الذي تتأصل فيه العقيدة الصحيحة وينتشر فيه العلم كهذه البلاد ولله الحمد والمنة، ويصبح هذا الشخص غير مقبول لدى عامة عامة الناس كما أنه لا يجد قبولاً لما يحمله من أفكار فإذا تبع هذه الأفكار فعل كأن يقوم بقتل أحد من الأبرياء كقتل رجال الأمن أو المعاهدين ومن معهم من المسلمين فإن المجتمع يقف بأسره أمام هذه الأفعال، وإذا علم أحد من أفراد المجتمع عن أحد من المطلوبين أمنياً بلغ عنه الجهات المختصة مباشرة، وهذا بلا شك قد جعل أصحاب هذه الأفكار في عزلة عن المجتمع المسلم، ومن المؤسف حقيقة أن هؤلاء الأشخاص يرون أن المجتمع بعلمائه، وولاة أمره وكباره وصغاره ورجاله ونسائه ومجتمعون على الحق ثم لا يعودون إلى الحق والصواب، وليتهم يسألون فإن علاج الجهل هو السؤال كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحابة الذين قالوا - لصاحب الشجة الذي احتلم - اغتسل، فلما اغتسل مات وعندما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك غضب وقال ألا سألوا فإنما شفاء العي - أي الجهل - السؤال قتلوه قتلهم الله، فلماذا لا يسأل هؤلاء قبل الإقدام على قتل الأبرياء عن جهل وعدم بصيرة، فلو سألوا لوجدوا الجواب عند العلماء يقول سماحة مفتي عام المملكة الوالد الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ حفظه الله في مجلة البحوث الإسلامية في عددها رقم 69 فأما الأسباب التي حملت بعض من زلت به القدم إلى الخروج عن الجادة وسفك دماء المعصومين والاعتداء على أموالهم وترويع الآمنين... فمن ذلك الجهل: فإن الجهل داء قاتل يردي صاحبه، وأعظم أنواعه الجهل المركب فيسير المرء في حياته على جهل وهو لا يعلم أنه جاهل، بل يظن نفسه على الحق والهدى، يقول الله تعالى: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} (الكهف، الآيات: 103 - 104) وهذه الآية وإن كانت في اليهود والنصارى فهي عامة بلفظها كل من عمل عملاً يظن أنه حسناً وإلى الله مقرب وحقيقة عمله أنه سيء وهو فيه لله مسخط والعياذ بالله، وهذا من الجهل بالدين ومن ذلك قوله تعالى: {فمن زين له سوء عمله فرآه حسناً} (سورة فاطر: الآية 8) وقد قيل: ما يبلغ لناس من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه فيا عجباً من أولئك الشباب يعيشون في عزلة عن مجتمعهم بما فيه من أهل الخير والعلماء في عزلة اجتماعية وفي عزلة علمية ولا يشعرون أنهم على خطأ! فمن المؤكد أن من ابتعد عن العلم والعلماء وابتعد عن جماعة المسلمين فإنه عرضة للوقوع في الخطأ والضلال، والمسلمون كما هو معلوم لا يجتمعون على ضلالة حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يد الله على الجماعة» رواه الترمذي وصححه الألباني. وحث صلى الله عليه وسلم على المخالطة بين المسلمين وحسن التعامل بينهم فقال: «إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً» رواه الترمذي وحسنه الألباني ورواه الإمام البخاري بلفظ إن من أحبكم إلي أحسنكم أخلاقاً، وفي رواية إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً، كما حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الاختلاف والافتراق وحذر من مخالفة الجماعة، والجماعة هي الفرقة الناجية والطائفة المنصورة. فقال: ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب - نوع من أنواع المرض - بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله رواه أبو داود وصححه الألباني، بل لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أشد تحذير من مفارقة الجماعة وإمام المسلمين فقال: «من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» رواه مسلم. وفي رواية عند النسائي من خلع يداً من طاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهدها فليس مني ومن قاتل تحت راية عمية يدعو إلى عصبية أو يغضب لعصبية فقتل فقتلته جاهلية» وسبحان الله! ليت أهل الأفكار يتعاملون هذا الحديث فإنه منطبق تماماً على واقعنا الحالي فأصحاب الأفكار في الداخل وكذا من يحرض على الفتن من الخارج ويحاولون إثارة الفتنة والخوف والإخلال بالأمن في بلادنا هم مفارقون للجماعة. 2- آثار الغلو على أسر الأشخاص معتنقي هذه الأفكار: إن الأفكار التي غلى أصحابها في الدين لا يقتصر أثرها على هؤلاء الغلاة فقط بل إنه يتجاوزهم ذلك الأثر السيئ فيصل إلى أسرهم وعوائلهم فكم أظهرت وسائل الإعلام صوراً لزوجات وأبناء من تم القبض عليهم أو من قتلوا أثناء محاولة القبض عليهم وظهرت صور أولئك الأطفال وأمهاتهم وحالات الخوف والهلع تظهر عليهم إذ أنهم قد وضعوا في موضع أثار لديهم هذا الخوف فهم يسمعون طلقات الرصاص بل ويرون القتلى يتساقطون أمامهم وهم لا ذنب لهم في ذلك، وإنما تسبب لما هم فيه عناد والدهم وإصراره على هذه الأفكار التي هي بعيدة كل البعد عن ديننا الإسلامي الذي أمر بحفظ تلك الأسر والأولاد، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت» رواه أبوداود والإمام أحمد وحسنه الألباني. وقال صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته. الحديث متفق عليه، واللفظ للبخاري. ويقول صلى الله عليه وسلم: «إن الله سائل كل راع عمّا استرعاه أحفظ ذلك أم ضيعه؟ حتى يسأل الرجل عن اهل بيته» رواه النسائي وحسنه الألباني. فهل إلقاء أولئك الأطفال والنساء في تلك المواقع وتعريضهم للأخطار هو حفظ لهم أم أنه من تضييع هذه الأمانة التي سوف يسأل عنها صاحب هذه الأفكار يوم القيامة. ومن المؤسف حقيقة أن نرى آباء وأمهات بعض المطلوبين يستجدونهم في وسائل الإعلام أن يعودوا إلى رشدهم وأن يرجعوا إلى جماعة المسلمين وكم كنا نتمنى جميعاً أن يتذكر أولئك الأبناء أن الله عزَّ وجل أمرهم ببر آبائهم وأمهاتهم وطاعتهم في غير معصية الله، وقد قال الله عزَّ وجلّ: {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} (سورة الإسراء 25) قال بعض السلف: لو كان هناك كلمة أقل من أف لنهى الله عزَّ وجلّ أن تقال للوالدين. وقال النبي صلى الله عليه وسلم محذراً من عقوق الوالدين «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ (ثلاثاً): الإشراك بالله وعقوق الوالدين»... الحديث متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وصححه «رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله عنهما أن تصل أمها وهي مشركة فحري بكل مسلم يخاف الله عزَّ وجلّ أن يحرص على فعل ما يرضي والديه في غير معصية الله وأن لا يغضبهما في أمر لا يريدانه فكيف بمن يفعل ما لا يرضيهما وهو أمر قد نهى الله عزَّ وجلّ عنه: 3- آثار الغلو على المجتمع المسلم والأمة الإسلامية: إن الغلو في الدين لا يقتصر على الأشخاص وأسرهم فقط بل يتعدى ذلك فيوثر على المجتمع ثم على الأمة الإسلامية، فالمجتمع يتأثر بما يحصل من تخريب للمنشآت والمباني كما يتأثر بانتشار الخوف والرعب بين أفراده ممن لا ذنب لهم بسبب أفعال هؤلاء الذين غلوا في دينهم. ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن الدين الإسلامي قد حرّم قتل المسلم حيث قال الله عز وجل {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} (صورة الأنعام الآية 151) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء) متفق عليه. كما حرم الإسلام أذية المسلمين بأي شكل من أنواع الأذى سواء كان باللسان أو باليد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) متفق عليه. وقد أغلق الدين الإسلامي الباب أمام الغلو والتطرف فحث على جمع كلمة المسلمين ووحدة صفهم في آيات وأحاديث كثيرة منها قول الله سبحانه وتعالى {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فأعبدون} سورة الأنبياء 92. وقوله تعالى {إنما المؤمنون أخوة...} الآية سورة الحجرات 10، أي أنهم ينتمون إلى دين واحد هو الإسلام، وأما الأحاديث فقد قال الصادق المصدق صلى الله عليه وسلم (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) متفق عليه. فالإسلام يجمع المسلمين كما يجمع الجسد الأعضاء وقال صلى الله عليه وسلم (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبك بين أصابعه) متفق عليه، قال العلامة الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله «هذا حديث عظيم فيه الخبر من النبي صلى الله عليه وسلم عن المؤمنين أنهم على هذا الوصف، ويتضمن الحث على مراعاة هذا الأصل وأن يكونوا إخواناً متراحمين متحابين متعاطفين يحب كل منهم ما يحب لنفسه ويسعى في ذلك وأن عليهم مراعاة المصالح الكلية الجامعة لمصالحهم كلهم... فإن البنيان المجموع من أساسات وحيطان محيطة كلية وحيطان تحيط بالمنازل المختصة وما تتضمنه من سقوف وأبواب ومصالح ومنافع، كل نوع من ذلك لا يقوم بمفرده حتى ينضم بعضها إلى بعض. كذلك المسلمون يجب أن يكونوا كذلك فيراعوا قيام دينهم وشرائعه وما يقوّم ذلك ويقويه ويزيل موانعه وعوارضه... إلى أن قال رحمه الله فما أنفع العمل بهذا الحديث العظيم الذي أرشد فيه هذا النبي الكريم أمته إلى أن يكونوا كالبنيان يشد بعضه بعضاً وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر. ولهذا حث الشارع على كل ما يقوي هذا الأمر، وما يوجب المحبة بين المؤمنين وما به يتم التعاون على المنافع، ونهى عن التفرق والتعادي وتشتيت الكلمة» ولذلك فإنه حري بالمسلمين أن يحرصوا على التآخي والتآلف واجتماع كلمتهم مع ولاة أمورهم وعلمائهم وأن لا يستمعوا لمن أراد أن يفرق جماعتهم أو أن يشتت كلمتهم مهما كان إدعاؤه. بل إن الواجب على المسلم أن يحرص على جماعة المسلمين وأن يلزم إمامهم فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية) رواه مسلم، كما أنه من الواجب على كل من يثير الأفكار التي تدعو إلى الغلو في الدين وتثيرالبلبلة في المجتمع أن يتقي الله عز وجل وأن لا يشوش على إخوانه المسلمين فإنه سوف يسأل عن هذه الأقوال يوم القيامة قال الله عز وجل {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} سورة ق الآية 18. نهار عبدالرحمن نهار العتيبي باحث متخصص في التشريع الإسلامي