العرب يكرهون القول بلا فعل.. ويمقتون الوعد بلا تنفيذ.. ويمجدون الصدق في القول والعمل.. والوفاء بالوعد والعهد.. ومع ذلك.. وفي الواقع المعاش.. فإن أقوال الناس أكثر جرأة من أفعالهم بكثير.. لأن الكلام سهل.. والعلم صعب.. ولأن الجهل سائد عن كثير من البشر.. والجهل هنا ضد العقل.. وهو ما عناه المثل العربي أو الحكمة الصادقة الذائعة: لسان الجاهل يسبق عقله وعقل العاقل يسبق لسانه فالجهل يطلق الكلام على عواهنه لسانه يسبق تفكيره.. وكلامه تعجز عنه قدرته.. وأقواله أكبر من أفعاله بكثير.. فهو لا يعرف أهمية الكلام.. ولا عواقبه.. وما يترتب عليه.. وخاصة فيما يتعلق بالآخرين.. فهو يعدهم ان يفعل لهم كذا وكذا.. وان يقدم هذا وذاك.. يقول هذا بسرعة.. وجرأة.. وسهولة.. وثقة.. ولكن إذا جد الجد.. ووجب التنفيذ.. (مالقيت أحد..!). أما العاقل فهو يزن كلامه.. ويحاسب على أقواله.. ويقيس الأمور.. وإذا كان عقله كاملاً.. وتجاربه كثيرة.. ومعدنه أصيلاً.. فإنه يفعل أكثر مما يقول.. ويجعل أعماله تتحدث عنه.. ويعلم ان الصمت حكمة وان العمل هو المطلوب.. وأنه إذا ندم على صمته مرة.. فسيندم على كلامه مراراً.. ما لم يكن قد راجعه ووزنه واستوثق من قدرته على ما يعد به ويتعهد.. العاقل يفكر قبل ان يتكلم.. ويقدر قبل ان يعد ويتعهد.. أما الجاهل فإنه يتكلم قبل ان يفكر.. وبعد ويتعهد قبل ان يقدر ويعرف ما يترتب على كلامه من مسؤولية وتبعات! ولشاعرنا الاجتماعي (إبراهيم بن جعيثن) مقطوعة صغيرة جميلة ذكر فيها عدة أمور.. وفيها يقول: كل مشغول في فنه يظهر قوله على ظنه هذا شفته وابا اقوله والحمد لربي والمنه عسى فعلي يتبع قولي ما ناب ابخل به واكنه ترى القهوه بلا قدوع مثل الصلاة بلا سنه! هذي في مصلحة الدنيا والا الصلاة أبها الجنه والعجز يعذر ويسامح مصلوخ وش تاخذ منه؟! واللي يقول ولا يفعل عسى المواتر ياطنه والذي يقول ولا يفعل قد يغري كثيرين ممن يجهلونه ويوقعهم في مشاكل ومصائب، فهم يبنون على قوله، ثم يتضح لهم أنهم بنوا على جرفٍ هار ماله أساس! والشاعر العربي القديم والحكيم يدعو إلى التريث في قول (نعم) حتى يعلم القائل أنه سينفذ ما وافق عليه، وإلاّ فليقل (لا) من البداية فيريح ويستريح، ويصدق مع نفسه ومع الناس: إذا قلت في شيء «نعم» فأتمه فإن «نعم» دين على المرء واجب وإلاّ فقل «لا» تسترح وترح بها لئلا يقول الناس إنك كاذب! صح لسانه! القول زبد والفعل ذهب وبهذا يختلف الرجال اختلاف الثريا عن الثرى.. هناك من يقول ولا يفعل.. فهو مجرد غثاء.. وزبد.. وهناك من يقول ويفعل فهو معدنه أصيل كالذهب.. وهناك من يقول ويكذب دائماً فمعدنه من أخبث المعادن وأكرها.. كذلك يكون الفرق بين المظهر والمخبر.. أو الجوهر.. فالإنسان قد يكون طويلاً جميلاً ولكنه - مثلاً - خاوي المخبر خبيث الجوهر فلا فائدة منه.. بل هو ضرر يخدع كالسراب.. وهناك من مخبره أفضل من مظهره، وفعله أمضى من قوله، فهذا هو المعدن الطاهر.. النادر. وللشاعر المبدع إبراهيم بن جعيثن مصوراً الفروق بين المظاهر والمخابر: ياما من زول وش كبره في نفسه، شين تدبيره وان شاف القهوه مشبوبه نفض بشته للتسييره بعلوم الساند والحادر ضايقة به معاييره والى شاف الخاطر ذل مبطون، في بطنه غيره ودك تعرفه من هو وتقول له هرج وتمهن صيره عده باب شغل عليمي ودك تكرب مساميره! وان كان اخشبته ماتصد ملح لاهل النجيره افشبوا به جص للجصه حيثه سمح تكسيره