كم هو عجيب، وغريب، أمر هذا العالم الذي نعيشه اليوم..!! إنه عالم لا يستطيع معه عقل العاقل أن يتحمل ما يجري فيه، ولا يستطيع في الوقت نفسه أن يهرب منه.. لكنه بكل تأكيد، لن يستطيع أن يستوعبه ويفهمه، ويتعايش معه بطمأنينة.. فقد اختلطت الأمور، وعميت الحقائق، وغابت في ظلمات يغطي بعضها بعضاً ويتراكم بعضها فوق بعض..!! بل لقد ارتبكت المفاهيم، واضطربت قواعد الأشياء وأصولها، فصار الحق باطلاً والباطل حقاً، والصدق كذباً، والكذب صدقاً، والعقل جنوناً، والجنون عقلاً إلى درجة أصيب فيها العقل الجمعي بالدوار، وأصبح عاجزاً وغير قادر على تلمس طريقه ومعرفة ما يدور حوله، بوضوح وجلاء.. فالمرء عندما يجلس أمام التلفزيون يتأكد بأن عالمه مصاب بما يشبه الخيال.. سوف تسمع أشياء وترى أشياء تجعلك تعرك عينك، وتعرك عقلك لكي تتأكد بأنك في الواقع لا في الحلم، أو في عالم من الوهم والخيال.. فتصاب بالقنوط، واليأس الموجع القاتم، حينما تتأكد من صحوك، ويقظتك.. وأن ما ترى وتسمع وكل ما يدور حولك هو واقع فعلي، وعليك أن تقبله، وتتحمله وتتعامل معه طائعاً أو مكرهاً.. وتراك تسأل نفسك: كيف للأمور أن تسير هكذا؟! كيف للحقائق أن تبدل جهاراً نهاراً..؟ كيف يُقال للأبيض أسود وللأسود أبيض.. ويساق هذا إلى كثير من الناس فينساقون وراءه.. بل ربما آمنوا به وصدقوه هكذا؟.. وتراك تتحسس بدنك، وتتلمس رأسك في ذهول وتقول: هذا غير معقول.. لكنك تجد نفسك منساقاً في هذا المشهد الغرائبي رغم أنف عقلك.. ليصبح غير المعقول هو المعقول.. والزيف هو الحقيقة، والكذب هو الصدق، والباطل هو الحق الذي لا يقبل الإنكار أو الاستنكار.. هذا الوضع المربك المضطرب، هو ما جعل كثيراً من العقلاء يعيشون حالة - بل حالات -0 من عدم التوازن، وعدم الاستيعاب، وكأن عقولهم أصبحت خارج جاذبية المنطق، والإدراك، وأصبحت تعوم في سماء عالم متقلب، متخبط، متسارع في تخبطه، وانفلاته، وهوسه.. فلا يجد عاقل تفسيراً لما يحدث في المنطقة اليوم ولا يجد سبباً جوهرياً لهذا الاضطراب، وهذه الفوضى إلا أن يؤمن بأن هناك عقولاً.. منذ أن أطلق ما يسمى بالفوضى الخلاقة من تدبير وتدبّر كلّ ما يدور، بطرق غامضة، وملتوية، مصحوبة بإعلام يقوم على الإعماء، والتعمية، وجرّ كثير من عقول الناس إلى هذا المعترك المضطرب، الغامض والمعقد، في إذعان، وانقياد، واستسلام، بل وربما إلى إيمان، ولقد راعني - وما أكثر الأشياء المروعة والمفزعة هذه الأيام-، أقول لقد راعني حديث منذ أيام مع أحد المنسوبين إلى الفكر والسياسة، وهو يتحدث عن الموقف الغربي مما يدور في سوريا، حيث أخذ يكيل المدح، والثناء والشكر والعرفان لأن الغرب لن يسمح للأسد باستخدام الأسلحة الكيميائية..!! وتخيلوا كيف أنني لم أصرخ من هول الصدمة..؟ وإنما شكرت ذلك «المفكر» لأنه نقلني من الشك إلى اليقين بأن هذا العالم مصاب بالصرع أو الجنون.. أيعقل أيها العقلاء أن نشكر الغرب لمجرد أنه سيعترض على السلاح الكيمائي فقط، ويسمح للأسد أن يقتل شعبه طيلة عامين بكل شيء، من الفؤوس إلى طائرات الروس، التي تقذف بالحمم، والصواريخ، وبراميل البارود، والقنابل العنقودية، والقنابل الانشطارية والفراغية، حتى أحال سوريا كلها إلى خرائب، وحرائق، ومقابر جماعية للأطفال والشيوخ، ومداخل تحمل التوابيت، وقوافل تحمل أكفانها هاربة من جحيم الموت إلى ذل التشرد.. أنقول للغرب ألف شكر لأنك سمحت للأسد باستخدام كل موبقات ومحرمات القتل، والتدمير والإهلاك، ماعدا استخدام الغاز..؟!! وبالمناسبة فإن أفضل طرق الإعدام، والموت المريح في الغرب هو الإعدام في الغرف الغازية..!! أيها السادة، أجزم أن وراء أكمة المنع هذه ما وراءها.. فمشكلة الكيميائي، أو الغاز لا تكمن في الرحمة بالشعب السوري، وإنما لأن الأسد لو استعمله فإن الرياح قد تذهب به بعيداً.. سيذهب إلى ما وراء هضبة الجولان.. وإلى ما وراء أكماتها.. وهذا هو الشيء المحرم وغير المباح.. وكم في عالمنا من المشاكل والأهوال، والمحرمات، والمباحات، من الأحداث والألاعيب التي تُدار من وراء الهضبات، والأكمات..!!