تزخر بلادنا بآثار كثيرة ومتنوعة في شماليها وجنوبيها وشرقيها وغربيها ووسطها تدل على حضارات عريقة مرت عليها عبر القرون والأجيال التي تعاقبت عليها قبل ظهور الإسلام ثم جاء الإسلام ومعه الحضارة الإسلامية الزاهية فعزز الحضارة العربية التي كانت جذورها ضاربة في أعماق التاريخ وزادها وجددها ووجهها فشكلت الحضارتان موروثا حضاريا وفكريا وثقافيا خالدا يحكي تاريخ أقوى الأمم وحضارة أعرق الشعوب. وفي كل منطقة من مناطق بلادنا المترامية الأطراف توجد آثار ومورثات تمثل الأمم التي عاشت على أرضها بطريقة عيشها وتقاليدها في الملبس والمأكل والمشرب، وعاداتها الاجتماعية والقبلية. وقد تكون متشابهة في بعض المناطق ومتباينة في مناطق أخرى بحكم عوامل كثيرة ومن تلك المناطق الواقعة في الوسط (منطقة سدير) فهذه المنطقة قديمة قدم التاريخ وعاشت فيها أمم كثيرة، وتعاقبت عليها أجيال وأجيال تركت موروثا متنوعا ضخما يصعب الحديث عنه أو عن شيء منه في هذه العجالة فالحديث يطول ويتشعب من ناحية ولست متخصصا في التاريخ ولا ملما بالآثار من ناحية أخرى حتى أعطي الموضوع حقه. ولذا سوف أقصر حديثي على أشياء بارزة من آثار إحدى بلدات هذه المنطقة وهي مدينة (جلاجل) فهذه المدينة من أقدم بلدات المنطقة وكانت في زمن مضى من أكثرها سكانا وأكبرها مساحة وكانت ولا تزال عامرة بالحياة والحركة وقد وجدت فيها آثارٌ تدل على قدمها وعراقتها يصعب حصرها وتناولها عبر الأزمنة ومن هنا رأيت أن يكون حديثي عن بعض آثارها في عصورها المتأخرة التي لا تزال بقاياها قائمة تشهد عليها ومن هذه الآثار: بيت مؤرخ نجد الشهير عثمان بن عبدالله بن بشر (1210 - 1290ه) صاحب كتاب (عنوان المجد في تاريخ نجد) الذي يعد أكبر وأهم مرجع في تاريخ نجد فقد ولد ونشأ وتوفي في جلاجل وبيته يقع في وسط البلد وكان في حالة لا بأس بها حتى جاءت سيول عارمة اجتاحت البلد عام 1418ه فهدمته وبقيت بعض أساساته شاهدا عليه. بيت الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العنقري (1290 - 1373ه) قاضي سدير في عهد الملك عبدالعزيز ومن العلماء المجددين والقضاة المشهورين وله مؤلفات وتعليقات على بعض كتب الفقه وقد ارتبط الشيخ العنقري بمصاهرة إحدى الأسر في جلاجل فكان يقضي وقته بين المجمعة وجلاجل وظل بيته بحال جيدة حتى اجتاحته السيول التي ذكرتها سلفا وبقيت آثاره دالة عليه. بيت الشيخ إبراهيم بن ناصر الفريح المعروف بأبي جعفر (1319 - 1393ه) أحد رواد التعليم في جلاجل وفي بيته افتتحت أول مدرسة نظامية حكومية في جلاجل عام 1368ه وبدأت الدراسة فيها عام 1369ه واستمرت فيه عدة سنوات، ويكتسب هذا البيت أهميته التاريخية من كونه أول مكان لمدرسة نظامية حكومية في البلد. الكتاتيب وأشهرها مدرسة عبدالرحمن بن ربيعة ولا تزال آثارها قائمة، ومدرسة فوزان القديري وهذه لم يعد لها أثر ولكن مكانها معروف حيث يقع في الجهة الجنوبية لمركز البلد التجاري (المجلس) وقد أزيلت جميع المباني في هذه الجهة وصار مكانها شارع، وهاتان المدرستان في المحيط الداخلي للبلد، وأتوقع أنهما أنشئتا في منتصف القرن الرابع عشر تقريبا. المساجد القديمة وأشهرها مسجد عيسى، ومسجد موسى، ومسجد الزعوب، ومسجد الحدراني، ومسجد الحويطة السفلى، وهذه المساجد بنيت على طراز معماري جميل من الحجارة والطين والخشب وزينت بزخارف من الجص وألحق بها بئر وأماكن للوضوء والاستحمام من الحجارة المنحوتة، وقد حرص مجموعة من الشباب الغيورين على ترميمها وإعادتها الى الهيئة التي كانت عليها فقاموا بجهودهم الذاتية بترميم اثنين منها هما: مسجد عيسى، ومسجد الزعوب، مؤملين في عون من الهيئة العامة للسياحة والآثار التي وعدتهم بذلك عند تنفيذ الخطة المزمعه لترميم البلدة ضمن الخطة الموضوعة لمنطقة الرياض. قصر سويد بن علي السويد الذي عينه الإمام فيصل بن تركي (... - 1282ه) أميرا على جلاجل فبنى هذا القصر في حدود عام 1250ه ويمتاز هذا القصر بقوة بنائه، وسماكة جدرانه، وكثرة نوافذه، وارتفاع سقوفه، ويتكون من دورين وقد صمم بشكل فريد غير مألوف في المنطقة ويذكر د. محمد بن سعد الشويعر أنه صورة مصغرة لقصر هشام بن عبدالملك في أريحا في الأردن (مجلة الدارة، العدد الأول، السنة الرابعة، شوال 1401ه) ولا تزال آثاره باقية تدل على عظمته ومكانته التاريخية والأثرية. المرقب وهو برج مراقبة دائري الشكل بني فوق جبل في شرق البلد ويصل ارتفاعه إلى 12م تقريبا ومبني بالحجارة المتراصة وفيه فتحات في كل الجهات لمراقبة القادمين إلى البلد من أعداء وغيرهم من مسافات بعيدة فيجري الاستعداد لمواجهتهم ويقدر عمره بأكثر من (200) سنة تقريبا. الحويطة السفلى أو حويطة الجدعان: وهي منطقة تتألف من مزارع وبيوت متراصة وفيها مسجد مكون من دورين على غير العادة التي جرى عليها بناء المساجد، ويحيط بها سور سميك يتخلله عدد من أبراج المراقبة، وهي قديمة جدا، ولم يعثر على تاريخ محدد لإقامتها ولكن آثارها الباقية تدل على قدمها وعلى قيمتها التاريخية والاجتماعية. الأسوار والأبراج والبوابات: يحيط بالبلدة سوران ضخمان أحدهما يحيط بالبلدة القديمة التي تضم مبنى الإمارة والمسجد الجامع والمركز التجاري (المجلس) وبيوت أهل البلد، ويبدو أنه حدث توسع وتطور في البلد فقامت بيوت ومزارع خارج السور فبني سور آخر ويضم السوران عددا من الأبراج (المقاصير) الدائرية والمربعة فيها فتحات صغيرة يراقب من خلالها القادم إلى البلد، وتمتاز هذه الأسوار بالسماكة والارتفاع حيث تبلغ سماكة أسفلها أربعة أمتار تقريبا ثم تقل كلما ارتفعت، وتشتمل على أربع بوابات تفتح في النهار وتغلق في الليل فلكل جهة من الجهات الأربع بوابة خاصة بها ففي الجهة الغربية توجد بوابة (باب البر) وقد سميت بلك لأنها تفضي إلى البر، وفي الجهة الشرقية توجد بوابة (الدويخلة) وسميت بذلك لأنها تفضي إلى مكان بهذا الاسم أو لأنها لا تفضي إلى البر مباشرة بل تمر بمزارع فهي دويخلة نوعا ما، وفي الجهة الشمالية توجد بوابة (الشمالية) وقد سميت باسم جهتها، ومن الناحية الجنوبية توجد بوابة (السراحية) وسميت بذلك لأن الغنم تسرح منها ولا تزال آثار من بعض هذه الأسوار والأبراج والبوابات باقية تدل على الاحتياطات الأمنية التي كان الناس يتخذونها لحماية أنفسهم وبلادهم من المغيرين واللصوص. البلدة القديمة: وتتكون من مجموعة من البيوت والمساجد والآبار والمدارس ومركز الإمارة والمركز التجاري (المجلس) تربط بينها سكك يفضي بعضها إلى بعض بشكل مترابط يوحي بترابط الناس في ذلك الزمان حتى كأنهم أسرة واحدة وتحيط بها أسوار ذات أبراج وبوابات كما أسلفنا وهذه البلدة تداعت بيوتها ومكوناتها وعناصرها الأخرى بفعل الزمن وعوامل التعرية والسيول وبخاصة السيول التي اجتاحت البلد عام (1418ه) فأصبحت خرابا يبابا وأطلالا لم يبق منها إلا آثار تذكرنا بذلك الماضي الجميل رغم قساوة عيشه. إن هذه الآثار التي ذكرتها زالت أو أوشكت على الزوال، وإن لم تتدارك بقاياها الجهات المسؤولة عن الآثار وفي مقدمتها الهيئة العامة للسياحة والآثار فتوليها شيئا من العناية والاهتمام وتضع يدها في أيدي أولئك المتحمسين للحفاظ عليها فإن بقاياها ستزول وتزول معها قيمتها التاريخية والاجتماعية وذكرياتها الجميلة، خاصة أنني قد علمت من بعض المهتمين بالآثار في (جلاجل) أن الهيئة أدرجت (جلاجل) في خطة التطوير السياحي لمنطقة الرياض للفترة من (1433- 1435ه) علما بأن الهيئة قامت مشكورة بتأهيل القرية التراثية في محافظتين من محافظات منطقة سدير هما (المجمعة والغاط) وما إخالها تجاه تلك الآثار إلا فاعلة لا سيما وأن رئيسها صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان المعروف بهمته ونشاطه وحرصه على خدمة آثار بلاده والمحافظة عليها وإبرازها إلى حيز الوجود من جهة، ولجعلها وجهة سياحية جاذبة من جهة أخرى، وهما أمران يحظيان باهتمام سموه الشديد ومتابعته الدقيقة باعتبارهما يمثلان جناحي الهيئة اللذين تحلق بهما لتحقيق أهدافها وبرامجها وتطلعات القيادة الراشدة في هذا السبيل. إننا نأمل من الهيئة الاهتمام بهذه الآثار وإعادة تأهيل البلدة القديمة فهي بحق تمثل نموذجا رائعا للطراز العمراني السائد، ومرحلة مهمة من مراحل حياة الناس ونمط معيشتهم في تلك الحقبة من تاريخ بلادنا العريق.. كما أن في إحياء هذه الآثار وتأهيلها تذكير للأجيال الحاضرة والقادمة بالحياة العصامية التي كان يعيشها الأجداد التي يعتمدون فيها - بعد الله - على ذواتهم وعلى إمكاناتهم المحلية ومع ذلك استقامت حياتهم، وكونوا أمة، وأنشأوا حضارة، كما أن فيها ربطا للأجيال الحاضرة بالماضية يجعلهم يتخذون منهم أفضل قدوة وأجمل أسوة فالبدار البدار يا هيئة الآثار، قبل أن تصير الآثار إلى الزوال.. في جميع مناطق المملكة، فما أروع أن تستيقظ الآثار وتقف شامخة تحكي قصص الأزمنة وتسرد حكايات الأجيال فتكون وجهة سياحية جاذبة وموردا اقتصاديا جيدا.