لعل إحدى أهم الظواهر الأدبية اللافتة للنظر في الآداب السردية الغربية الآن هيمنة روائيين كبار ينتمون إلى ثقافات ليست غربية، فلم تعد الرواية الغربية صافية ومقتصرة على من ينتمي إلى أهلها، وثقافاتها، إنما أصبحت مهجنة من ضروب متنوعة من المرجعيات، والتواريخ، والموضوعات، والرؤى، وأهم ما يميزها في العقود الأخيرة سمة التهجين. فهل هي بوادر لتفكك المركزية الغربية في المجال الثقافي؟. لو استعرضنا أسماء كبار الروائيين في الآداب الإنجليزية والفرنسية الآن لوجدناها تنتمي إلى آسيا، وإفريقيا، وأمريكا اللاتينية، والعالم العربي. وهي قائمة أقل ما يقال عنها إنها تمثل أبرز الظواهر الجديدة في الكتابة السردية، فهؤلاء الكتاب حملوا معهم مرجعياتهم الثقافية، وكتبوا عن موضوعات إشكالية تتصل بالعلاقة مع الغرب، والاستعمار، والتأويلات الدينية، والهوية، وإعادة تفسير التاريخ، وحركات التحرير والمقاومة، وقضية المرأة. لدي قائمة طويلة لهؤلاء، منهم على سبيل المثال وليس الحصر، أمين معلوف، وآسيا جبار، وكازو أيشيغورو، والطاهر بن جلون، وطارق علي، ومحمد ديب، ويونغ تشانغ، وأهداف سويف، ونيبول، وشينوا آشابي، وسلمان رشدي، ونور الدين فرح، وعبدالرزاق غورنا، أمين الزاوي... الخ. ويمكن أن أوسع القائمة لتضم المئات إذ أضفت الشعراء، والنقاد، والمفكرين، والفنانين، ومعلوم أن اتجاهات الفكر النقدي الذي تمثله «دراسات التابع» ودراسات ما بعد الكولونيالية» و«الدراسات النسوية» تصدر حالياً خارطة الفكر الحديث في الغرب، وفي العالم اجمع، وكبار مفكريها ونقادها يتحدرون من خلفيات ثقافية وعرقية من خارج أوربا، مثل إدوارد سعيد، وهومي بابا، وشايغان، وسبيفاك، وشهيد أمين، وفاطمة المرنيسي، وبراكش، وتشاتشرجي، وعشرات سواهم، وهم يُحدثون زلزالاً حقيقياً في مقولات الفكر الغربي التقليدي، ولهم مراكز بحوث كبيرة، وقد انتشروا من البرازيل إلى الهند، فضلاً عن أوربا وأمريكا، وتهتم مئات المواقع على شبكة الانترنيت بأفكارهم، ولهم مجلات خاصة رفيعة المستوى، بل هنالك دور نشر كبيرة يقتصر عملها على جهودهم الثقافية، وتؤكد كثير من الدراسات الاستطلاعية أن أفكارهم ومناهجهم تكتسح الجامعات في امريكا واوربا بعد أن أصاب البرود مقولات الفكر القديم. هذه الخلفية الثقافية والأدبية العامة أريد مها أن تكون مدخلاً للحديث عن كاتب بدأ يستأثر باهتمام كبير في العقدين الأخيرين، أقصد «جلبرت سينويه» وهو روائي انتزع مقاماً مرموقاً بين الكتاب المعاصرين في فرنسا، وينحدر من أصول مصرية، وهذا الاسم الذي اشتهر به هو اسم أدبي، وأسرته تنتسب إلى «الشوّام» الذين رحلوا إلى مصر في القرن التاسع عشر، وأسهموا في تأسيس الثقافة الحديثة في مصر، فإلى الشوّام تعزى نشأة الرواية والصحافة، وقد استأثروا باهتمام كبير من كثير من الباحثين والدارسين، وسبق لي أن كتبت عنهم بتوسع في كتاب «السردية العربية الحديثة» منذ سنوات. رحل سينويه مبكراً إلى فرنسا، وجعل من الفرنسية لغته الأدبية، لكنه يجيد الانجليزية ورسائلنا المتبادلة تتم بها، فلغته العربية تكاد تضمحل، ولا يستطيع التفكير بها، على أنه نهل موضوعات رواياته من الخلفية التاريخية الثقافية التي ينحدر منها، فرواياته تشتبك بالمرجعيات الثقافية العربية - المصرية على وجه التحديد - وكثير منها اهتم بالقرن التاسع عشر حيث وقع اللقاء الحقيقي بين الشرق والغرب. بدأ سينويه يلفت الاهتمام بكتابة الروائي (ابن سينا أو طريق إصفهان -1989) الذي استعاد فيه حياة ابن سينا معتمداً في ذلك على سيرة كتبها تلميذه الجوزجاني الذي صاحبه في حله وترحاله، وهذا هو الكتاب الوحيد المترجم له الى العربية، وصدر عن دار «الجمل» في ألمانيا عام 1999. ثم ظهرت روايته (المصرية - 1991) فاستأثرت باهتمام حال صدورها، ونالت جائزةالحي اللاتيني في فرنسا، وهي تستلهم الحياة الاجتماعية المصرية في العصر الحديث، وسرعان ما نشر رواية (الكبرياء وشجرة الزيتون -1992) فحصل فيها على جائزة جون دور. وعاد في روايته (ابنة النيل - 1993) إلى الحياة في مصر في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وصور الصراعات الدولية في منطقة الشرق الوسط خلال تلك الحقبة، وتوسع اهتمامه بالتاريخ في رواية (كتاب الحجر الكريم - 1996) الذي استعاد فيه الاندلس في نهايات حكم أبي عبدالله الصغير، وضراوة محاكم التفتيش التي طاردت المسلمين، واليهود، والمسيحيين المستنيرين، وهذا الكتاب يحمل رسالة شديدة الإيحاء حول التسامح، وقبول الآخر، والبحث عن المشترك الأعلى في العقائد والثقافات. وكما كان كتابه عن ابن سينا ذا طابع سيري، فقد عاد في كتابه (الفرعون الأخير - 1997) ليعالج بأسلوب سردي حياة فرعون وهو أقرب الى التاريخ البيوغرافي لشخصية آخر فراعنة مصر. ثم ظهرت روايته (ابن بروج - 1999) فكتاب (إلى ابني على مشارف الألفية الثالثة - 2000) ورواية (أيام وليال - 2001) وفي سائر أعمال سينويه تتجلى الروح الشرقية المليئة بالسحر القصصي الذي لا يسقط طابعاً عقلياً على الحدث، إنما يقوي من سيولته الممتدة في الزمان والمكان. ومعظم هذه الأعمال نشرت في دار غاليمار، وهي أكبر دار نشر فرنسية. كما صدرت كل أعماله في سلسلة الجيب «فوليو المرموقة» وذلك دليل على شعبية ما يكتب ونجاحه. ونال مجموعة من الجوائز الأدبية المهمة، منها جائزة «Bookseller» في عام 1996، وجائزة «Grand Prix» عام 2005، ومنحتنه الحكومة الفرنسية وسام «فارس الفنون والآداب Chevalier des Arts et Lettres تطرح روايات سينويه قضية الحدود الفاصلة بين الرواية والتاريخ. وقد انتقى لرواياته موضوعات متصلة بالتاريخ العربي والإسلامي، واهتم بسير شخصيات كبيرة، ونسج حولها نصوصاً روائية لفتت اهتمام كبار النقد، ومن الواضح ان صلته العميقة بالرواية التاريخية منحته الفرصة لتطوير الخصائص الإنسانية، كالعواطف المثيرة، وخلق حالات الترقب والتشويق التي تسهم في الانجذاب الى الحقائق التاريخية البسيطة واستيعابها، وعلى الرغم من كل ذلك فهو ينهل الوقائع من التاريخ ليجعل منها خلفية تجتذب المتلقين، وظل مرتبطاً بمصير العالم العربي، بما كتبته من روايات أو سير ترجمت إلى نحو خمس عشرة لغة، وفي شتى أرجاء العالم. وكان تركيزه واضحاً على بدايات العصر الحديث منذ حملة نابوليون بونابرت عام 1798 وفي كثير من رواياته صور رمزيا التداعيات التي رافقت التدخلات الاستعمارية في الشرق الأوسط. وقف على اللحظة المفصلية التي تعارضت فيها المصائر والإرادات، فبضعف الامبراطورية العثمانية، أثير موضوع «المسألة الشرقية» وكانت تلك اللحظة التي بدأ الغرب يتوغل فيها في قلب العالم العربي، فانتهى بالسيطرة عليه، وللتعبير عن هذه العلاقات الشائكة كتب سينويه سيرة روائية كبيرة لمحمد علي، حاكم مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وصور فيها صراعات الإرادات، والنزاعات الثقافية والسياسية بين الأنماط التقليدية في الفكر القديم الذي مثلته الامبراطورية العثمانية، وبدايات الانماط الحديثة، ودخول المؤثرات الغربية في مصر والعالم العربي، وقد صور على نحو جذاب البدايات المبكرة للاستعمار الغربي. تقع أعمال سينويه بين ثقافتين وعالمين، وتسعى لردم الهوة بينهما.