مهرجاناتنا الصيفية تفتقد إلى الخيال والإبداع وهي تستند إلى فقر واضح في المؤسسات الثقافية المستقلة والمبدعة التي ترعى طوال العام مشاريع المبدعين وتنميها وتوفر لهم بيئة للتجريب والمنافسة حتى إذا جاءت المهرجانات أخرجت تلك المؤسسات كنوزها الإبداعية لتعرضها أمام الناس لا شك أنها فكرة عبقرية رأسمالية تلك التي ربطت بين الترفيه والتسوق، فبدلاً أن يكون التسوق للحاجة والضرورة ويمكن أن يحدث في كافة أوقات العام، نجد أنه تحول مع اختراع مراكز التسوق الضخمة التي يتوفر فيها كافة الخدمات إلى رحلة للترفيه وقضاء وقت ممتع لها طقوسها وأوقاتها. التحول العبقري الآخر حدث عندما تحولت مهرجانات الإجازة الصيفية التي تسعى لملء فراغ أوقات الناس بالمفيد إلى مهرجانات للتسوق وشراء الحاجات والمستلزمات وقضاء ذلك الوقت في أماكن الأكل والشرب والترفيه في الأسواق الكبيرة والمكيفة والمريحة. عندما اخترعت دبي قبل أعوام مهرجانها السنوي للتسوق وكان ينظم في الغالب في فصل الربيع عندما يكون الطقس مناسباً على الساحل الشرقي، تقاطر عليها أفواج من البشر من كافة دول الخليج العربي وبخاصة من المملكة فنجحت في اجتذاب الناس إليها لقضاء أوقات بين مراكزها التجارية فنهضت صناعة السياحة بفضل مقومات كثيرة ، ولكنها لم تكتف بذلك فسارعت إلى تنظيم مهرجان «مفاجآت صيف دبي» حين اكتشفت أن الطقس لم يعد له دور مهم في تحديد وجهة المسافر إذا توفرت له الخدمات الجيدة مثل السكن ومراكز الترفيه و«التسوق». دبي اخترعت مهرجانات التسوق التي مع الأسف حولت أوقات فراغنا إلى الركض نحو الأسواق فنشأت ثقافة التسوق وطقوس التسوق وتكاليف التسوق، وابتعد عن أوقات فراغنا ترف البحث عن العلم والثقافة والاستمتاع الحقيقي بالحياة. ونتيحة لعقدة دبي حاولت مدن أخرى تقليدها ومنها جدة وأبها والدوحة والكويت وأخيراً الرياض -التي تأتي دائماً متأخرة- وحاولت أن يكون لها مهرجاناتها السنوية للتسوق والترفيه، فبحثت عن أسباب تفوق دبي في اجتذاب الناس فوجدت أن أفضل الأماكن لتوفير بيئة مريحة مكيفة في فصل الصيف هي مراكز التسوق الضخمة، ثم حاولت بعد ذلك «تلطيف الجو» ببرامج غنائية وترفيهية مكررة تفتقد للخيال والإبداع، فقط حتى يقال إن هناك مهرجاناً للصيف يمكن أن يوفر فرصة للعائلات لقضاء وقت ممتع في فصل الصيف الحار والممل والمتضخم بصخب الأطفال والشباب. مهرجانات التسوق خرجت من عباءة الغرف التجارية الصناعية التي يهمها مصلحة منسوبيها من رجال الأعمال وقدرتهم على التفاعل مع النشاطات التي تساهم في إفراغ جيوب الناس، وعندما نجحت دبي وغيرها في تحويل وجهة متوسطي الدخل إلى الداخل وإلى مراكز التسوق، وجدوا في تلك المهرجانات فرصة لتحويل فصل الصيف الذي كان يمثل في السابق فترة ركود اقتصادي إلى حركة وصخب ومهرجانات فارغة المضمون ولكنها تساهم في تنشيط الحركة الاقتصادية واجتذاب الناس إليها، ولهذا فمن الطبيعي طالما طالما أن الغرف التجارية هي الراعي والمنظم لهذه المهرجانات أن تكون فارغة المضمون ولا تقدم لشبابنا وفتياتنا سوى ثقافة التسكع والمعاكسة ومضايقة المتسوقين، وثقافة مطاعم الوجبات السريعة وموديلات الجوالات والسيارات الفارهة. ومن الطبيعي أيضاً في ظل غياب مؤسسات الثقافة والفكر ومؤسسات التعليم أن تتحول إجازتنا الصيفية إلى عبء على الأسرة وعبء على المجتمع، فبجانب أعباء التسوق والاحتياجات التي لا تنتهي، يبحث البعض عن فرص إشغال أوقات الشباب كيفما اتفق، المهم أن «تضفهم» المؤسسات وتروّح عنهم وتمنحهم ما يتوفر من فرص التوعية والتثقيف بعيداً عن وجود برامج مدروسة ويتوفر فيها ما يغني العقل والقلب والفكر والروح. مهرجاناتنا الصيفية تفتقد إلى الخيال والإبداع وهي تستند إلى فقر واضح في المؤسسات الثقافية المستقلة والمبدعة التي ترعى طوال العام مشاريع المبدعين وتنميها وتوفر لهم بيئة للتجريب والمنافسة حتى إذا جاءت المهرجانات أخرجت تلك المؤسسات كنوزها الإبداعية لتعرضها أمام الناس، فأين هي المؤسسات الثقافية المتخصصة بالفنون المسرحية بكافة مسمياتها وأنماطها؟ وأين هي المؤسسات الثقافية المتخصصة في الشعر والأدب والرواية والقصص لكافة أطيافه، وأين هي المؤسسات الثقافية المتخصصة في الفن التشكيلي وفي الرسم و الديكور؟ وأين هي المؤسسات الثقافية المتخصصة في الفنون الجميلة وفي صناعة الأفلام المتحركة وفي السينما والقصص المحكى من التراث؟ في ظل هذا الفقر المدقع في المؤسسات المتخصصة وفي الإنتاج الثقافي المبدع نجد أن المجتمع يعيش حالة فراغ فكري رهيب تملأه الفضائيات ببرامج «تزيد الطين بلة» وتملأه الأسواق بالصخب والانفلات الأخلاقي وتملأه بعض النشاطات الثقافية الأخرى بفكر العزلة وأحادية الرؤى وفكرالتشاؤم من المستقبل، وحقيقة لا أعرف كيف يمكن لمجتمع أن يتطلع إلى المستقبل ويبني قدرات شبابه واسهامات أبنائه في ظل هذا الفقر الثقافي الذي يزداد عاماً بعد عام. في العام الماضي وفي مثل هذا الوقت كتبت عن المهرجانات السياحية التي تتسابق بعض المدن في تنظيمها حتى اخترعت لها أسماء وشعارات تتناسب مع مسميات المدن، وقلت إن موجة الإرهاب والتطرف التي ضربت بلادنا خلال العامين الماضيين كانت تتطلب مواجهة فكرية ثقافية غير مباشرة توفر بيئة بديلة لثقافة التكفير والتطرف والتشاؤم. أما وجود برنامج أو مشروع لمواجهة الإرهاب بالفكر التقليدي المباشر فلن يكون تأثيره كبيراً كما شاهدنا ذلك في الحملة ضد الإرهاب التي نفذت مؤخراً إعلامياً وفي برامج المؤسسات التعليمية. إن المطلوب توفير فكر بديل وثقافة بديلة مبدعة خلاقة متوازنة بين الاحتياج العقلي والروحي والنفسي، وتكون متوازنة بين التمسك بالقيم والأخلاق الإسلامية وبين الانفتاح الثقافي على العالم فنغترف من آداب الشعوب وفنونها وحضاراتها ما يغني ثقافتنا ويزيدها رسوخاً في الاهتمام بالإنسان وفي تعميق روح التعاون والتعاضد وفي رفع قيم الجمال وأهمية بناء العلاقات الإيجابية مع الآخرين، وتساهم في تعميق المواطنة وروح المسؤولية وتساهم أيضاً في دفع الشباب نحو العمل التطوعي ومساعدة الآخرين والبذل والتضحية بالوقت والمال والجهد في سبيل تقدم المجتمع وتطور العلاقات الإجتماعية. إننا بحاجة إلى المراجعة والمكاشفة في كيفية الاستفادة من الإجازات الصيفية ، وإذا كانت أوقات أبنائنا وبناتنا قد سبقنا إليها رجال الأعمال من خلال مهرجانات التسوق والترفيه، فإن رجال الثقافة والفكر والأدب يجب أن يعملوا من الآن للتفكير في تغيير ذلك الطريق العام القادم من خلال تنظيم مهرجانات الثقافة والفنون والآداب لجذب من هم بحاجة إلى ذلك من شبابنا النابهين.