إن تناول الفجوة بين مخرجات التعليم العام والمتطلبات الملحة لسوق العمل يدفع إلى السطح قضية التعليم التقني بروافده المتنوعة ومدى توفر قدراته واستعداده لإعادة التوازن الكمي والنوعي للاقتصاد الوطني والاسهام في إحداث تحول حقيقي في نمط المخرجات التعليمية السائدة التي لم تعد تلبي متطلبات الاقتصاد الرقمي الحديث ولا شروط المنافسة الاقليمية والدولية. فالحديث عن التدريب والتعليم الفني إشارة إلى اتجاه العالم إلى المزاوجة في أدائهما، وإشارة إلى تنوع تقني وثروة معلوماتية تلقي بتحدياتها المتنامية على التعليم والعمل والموارد البشرية الأمر الذي يشير إلى تغير كلي في الهياكل التنظيمية باعتماد الاجهزة الحاسوبية والالكترونية وهو ما دعا إلى التقليل من الاعتماد على المهارات البشرية التقليدية والابتعاد عن نموذج الكم بالتركيز على تنمية الكوادر البشرية بما يتيح لها المواكبة اللازمة للتحديثات العصرية. وتشكل ظاهرة الهرم المقلوب في منظومة التعليم والتدريب الوطنية بُعدا آخر للاختلالات التنظيمية حيث القاعدة خريجو الجامعات بينما المفروض أن تكون القاعدة خريجي الكليات التقنية والمعاهد الفنية ومراكز التدريب في التخصصات دون الجامعية باعتبارهم الاداة الحقيقية التي تلبي متطلبات النمو الاقتصادي. لقد حظيت قضية عدم مواءمة المخرجات التعليمية لاحتياجات سوق العمل وتدني الكفاءة الداخلية للأقسام العلمية ونقصها في المملكة باهتمام كبير منذ أكثر من ثلاثة عقود، وما زالت تحظى باهتمام متزايد، حيث أصبحت منذ بداية عقد السبعينيات للقرن الميلادي المنصرم تشكل ضرورة استراتيجية تمليها متطلبات التنمية الشاملة التي انطلقت في كافة أرجاء المملكة، وشملت معظم مناحي الحياة، واستندت إلى الاستفادة من معطيات التقنية الحديثة. وفي ضوء التبدلات الاقتصادية المتلاحقة على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية فإنه لا سبيل إلى تقليص الفجوة في التقنية دون امتلاك المقدرة على تسخير العناصر المؤثرة في عملية التطور، والاستفادة منها لإحداث التنمية الشاملة، وضمان استمرارها، وهذه العناصر تستند بالأساس على التعليم والتدريب والتأهيل، باعتبار أن التعليم والتدريب أداة للتأهيل، وأن التأهيل بدوره أداة لإعداد الأفراد من القوى العاملة وتهيئتهم لإنجاز الأعمال بإتقان وكفاءة. إن قوة تأثير العولمة الثقافية والاقتصادية وتسارع ايقاعها واتساع نطاق هيمنتها التقنيّة لإحراز المزيد من المكاسب وفرض شروط التبعية حتمت ضرورة النظر بجدية لتقويم الأوضاع الراهنة لمنظومة التعليم والتدريب والتأهيل، باعتبارها المحرك الرئيس للتنمية الشاملة، والتطلع إلى قضايا التعليم وتحديدا التعليم التقني والتدريب والتأهيل برؤى مستقبلية واضحة المعالم، ومحددة الأهداف، وتطوير طرق العمل وآليات التنفيذ للنهوض بها كماً ونوعاً. الدراسة التي قدمها منتدى الرياض الاقتصادي عن واقع بيئة التعليم والتأهيل والتدريب جسدت بعض اهم المشكلات التي تعوق تطور هذا القطاع المهم وما يتحمله من أعباء حقيقية في إحداث التغيير المنتظر في مسيرة الاقتصاد الوطني ، حيث أظهرت الدراسة أن متوسط نسبة الطلاب المقبولين في التعليم الفني فوق الثانوي (التعليم التقني) خلال الفترة 1415/1416ه - 1422/1423ه كانت (4٪) فقط من مجموع خريجي الثانوية العامة. ونسبة نمو المستجدين في التعليم الفني العالي بطيئة، رغم التزايد السنوي للمقبولين. هنا مكمن الخلل في العملية التعليمية وتحديدا في هذا القطاع الحيوي من منظومة التعليم إذ من المفترض أن يحدث التركيز على مؤسسات التعليم الفني لإعادة تعديل الهرم المقلوب حيث يفقد التعليم التقني حضوره المفترض وتأثيراته المنتظرة بغياب بيئة التدريب ولذا يجب ان يرتبط التعليم التقني بواقع صناعي حقيقي يتم فيه إجراء التطبيقات الأدائية في ظل وجود بنية تحتية مناسبة مثل كلية الجبيل وينبع الصناعية التي استفادت بجانب برامجها التعليمية الجيدة من تجربة جامعة الملك فهد للبترول والمعادن من التعليم التعاوني والتدريب التعاوني. ان ارتباط التدريب ببيئة صناعية هو الأساس في الموضوع وتنبغي الإشارة في هذا الإطار إلى مشروع المدينة الصناعية المخطط لها في منطقة سدير واعتزام الغرفة التجارية الصناعية بالرياض إنشاء كلية تطبيقية بالتعاون مع الخبرة الألمانية الأمر الذي سيسهم في تخريج كوادر فنية مؤهلة ستستفيد من المصانع والمختبرات والورش التي ستقام في المدينة الصناعية وتوفير الكفاءات الوطنية التي تملك القدرة الكافية على تلبية متطلبات التنمية الاقتصادية. ان الذي يجب التفكير فيه بالجدية اللازمة كيف تملك مؤسسات التعليم المهني الجاذبية الكافية والمزيد من الحيوية والمرونة لاستقطاب خريجي الثانويات فإذا افترضنا أن الذين يلتحقون بالتعليم العالي الأكاديمي نسبة محددة فأين يذهب الباقون؟اذ تشير الإحصاءات إلى أن 88٪ من العاطلين عن العمل هم من خريجي الثانويات .ويحدد الباحثون أن ضعف إقبال الطالب الفني على التفاعل مع بيئته يرجع إلى بُعد نفسي في الغالب وهوان الطالب يتوجه إلى التعليم الفني مرغما أي ليس رغبة منه ولكن لعدم وجود الأمكنة الكافية لاحتضان توجهاته في قطاع التعليم العام حيث التعليم الفني بالنسبة اليه يعد خيارا أخيرا ويبقى السؤال هل تملك مؤسسات التعليم الفني الكيفيات اللازمة لاحتضانه وتغيير طريقة تفكيره ونظرته للتعليم الفني والمهني وتعاطيه مع التقنية. هناك إحساس بوجود العديد من جوانب القصور التي تؤثر سلباً على هذه العملية، حيث يشعر كثير من المهتمين بأمور القوى العاملة في المملكة بأن قضية تعليم هذه القوى ، وتدريبها، وتأهيلها هي قضية تتطلب المناقشة لسبر أغوارها، والوقوف على أبعادها ، وتلمس الطرق المؤدية إلى علاج أوجه القصور فيها، ولا شك أن هذا الشعور ناتج من إدراكهم بوجود خلل في تحقيق التوافق بين احتياجات الاقتصاد الوطني من جهة ، ومتطلباته الكمية والنوعية من القوى العاملة المؤهلة من الجهة المقابلة.وهنا تحديدا يأتي دور القطاع الأهلي لإعادة بلورة واقع التعليم الفني برمته تأسيسا وتنظيما من خلال إعادة بناء المناهج والأطر والأفكار بإلغاء الإنقسام الحاصل بين التعليم الفني من جهة والقدرة على الأداء العملي والتطبيقي من ناحية أخرى.والمواءمة بين واقع النظم الدراسية وبيئة الحياة العملية. ٭ عضو اللجنة المنظمة لمنتدى الرياض الاقتصادي