جامعة الملك سعود، ليست مجرد جامعة للتحصيل العلمي والفكري والثقافي، ولكنها منارة حضارية نفخر بها جميعاً. يبدو أن الكتابة عن واقع التعليم في السعودية، أمر في غاية التعقيد والإثارة والجدل، بل وقد يصل في كثير من الأحيان إلى الاحباط والتهكم وعدم الثقة، والأسباب كما لا يخفى كثيرة جداً، ولا مجال لاستحضارها، على الأقل في هذا المقال الذي يُحاول الاقتراب قليلاً من واقع التعليم السعودي، وتحديداً التعليم العالي، هذا القطاع الحيوي الذي يعيش عصره الذهبي، نتيجة الاهتمام الكبير والرعاية الاستثنائية التي توليها الدولة للنهوض بهذا القطاع الهام، سواء من حيث ضخ المليارات من خزينة الدولة، حيث يُعتبر الأعلى من حيث الميزانية مقارنة بباقي القطاعات الأخرى أو من حيث إنشاء العديد من الجامعات في مختلف المناطق، حيث وصل عدد الجامعات الحكومية إلى 24 جامعة، أو النجاح الكبير الذي يُسجله برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي، هذا البرنامج الحضاري الأهم في تاريخ المملكة العربية السعودية، والذي يُعتبر علامة بارزة في مسيرة التعليم خصوصاً التعليم العالي السعودي، بل وعلى الصعيد العالمي أيضاً. قبل ثلاثة أسابيع تقريباً، شاركت في المؤتمر العلمي الثالث لطلاب وطالبات التعليم العالي بالمملكة، والذي أقيم في المنطقة الشرقية، في الفترة من 9 إلى 12 جمادى الآخرة. وقد حمل هذا المؤتمر الرائع عنواناً ملفتاً، وهو (نحو إبداع معرفي وجيل قيادي متميز). لقد شكل هذا المؤتمر، إضافة للمعرض الذي أقيم على هامشه، منصة عالية قدمت عليها كل الجامعات السعودية أفضل وأهم ما لديها من إنجازات وإبداعات واختراعات وابتكارات. وبالفعل كانت تظاهرة علمية وثقافية وفكرية، سجلت حضوراً بارزاً للطلاب والطالبات، حيث اشتعلت المنافسة بين الجامعات للظفر بالكثير من الجوائز. أما الجائزة الأهم في ذلك المؤتمر الكبير، فقد كانت الثقة الكبيرة التي منحها القائمون على تعليمنا العالي، وعلى رأسهم الوزير ونوابه، لهذه الفئة الشابة التي تُمثل النسبة الأكبر والأهم في مجمل سكان الوطن. بالفعل، كان مؤتمراً مميزاً، أعاد الكثير من الوهج والجاذبية والفخر لجامعاتنا، هذه الصروح التنويرية التي تتعرض للكثير من التحديات والانتقادات بل والاتهامات أيضاً. وتواجه الجامعة السعودية هجمة شرسة، تُحاول النيل من مكانتها ورمزيتها، باعتبارها الحاضنة الرئيسية لشبابنا وشاباتنا. الجامعة السعودية، بحاجة إلى وقفة جادة ومخلصة وواقعية، لأنها تستحق ذلك وأكثر وما يُثار هنا أو هناك، حول مستوى التعليم الجامعي، وبهذه السوداوية المحبطة، سيفقد هذه المراكز التنويرية الكثير من وهجها ومكانتها لدى المجتمع السعودي، وخصوصاً الأجيال الشابة التي تحمل صورة رائعة لهذه المؤسسات الحضارية الكبيرة التي نفخر جميعاً بالانتماء لها. نعم، لا شيء على الإطلاق فوق النقد والمساءلة والمواجهة، وجامعاتنا السعودية، ليست فوق كل ذلك، ولا يجب أن تكون كذلك، ولكن الأمر يحتاج إلى المزيد من الدقة والموضوعية والهدوء، لأن التعليم هو أحد أهم الركائز الأساسية بل الأهم للتنمية الحقيقية التي نطمح لها. جامعاتنا السعودية، بحاجة إلى النقد والنقاش والاختلاف ولكنها أيضاً بحاجة ماسة إلى الدعم والتشجيع والنصح، لا أن تُحبس في دائرة الاتهام والتشكيك والتسقيط. في ذلك المؤتمر الرائع، لفت انتباهي أشياء كثيرة، ولكن أهمها على الإطلاق هو تمظهر حالة أثارت استغرابي ودهشتي، وأظنها كذلك مع كل من حضر المؤتمر، وهي ظاهرة حديثة على ثقافة ومزاج الشاب السعودي. ظاهرة النجومية التي كانت محصورة في الرياضيين والممثلين والمغنيين، كُسرت في تلك التظاهرة العلمية الجادة، حيث تفاجأت بالنجومية الطاغية التي يحظى بها الأستاذ الجامعي وسط الطلاب والطالبات. أحد هؤلاء النجوم، بل أكثرهم تألقاً ونجومية في ذلك المؤتمر، هو عبدالله العثمان، مدير جامعة الملك سعود، هذه الشخصية الجدلية والمثيرة، والتي خطفت الأضواء سواء في ذلك المؤتمر أو في مجتمع التعليم الجامعي. كنت أنظر بدهشة وإعجاب لذلك الرجل النحيل الذي يتبادل الحديث والابتسامات مع أولئك الطلاب القادمين من كل مناطق الوطن، وكلهم إصرار ورغبة، رغم التزاحم الشديد حوله، لأخذ صورة مع هذا النجم الاستثنائي وحينما سألت أحد الأساتذة الجامعيين المخضرمين في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، عن هذه الشخصية المثيرة، همس في أذني وكأنه لا يريد أن يسمعه أحد بجملة مقتضبة: "هذا الرجل يملك مفاتيحَ سحرية لنقل تعليمنا العالي للعالمية". ولكن، من هو هذا الرجل؟. عبدالله بن عبدالرحمن العثمان، القادم من قرية "نعجان" القريبة من الخرج، والحاصل على البكالوريوس من كلية الزراعة بجامعة الملك سعود عام 1985م، والماجستير والدكتوراه من جامعة اريزونا عام 1991م. تدرج في عدة مناصب، سواء في جامعة الملك سعود، أو وزارة التعليم العالي، إلى أن عين مديراً لجامعة الملك سعود في عام 2007م. ومنذ ذلك الوقت، وهو يواصل مسيرة التحول الكبير باتجاه العالمية لهذه الجامعة العريقة التي أنشئت كأول جامعة سعودية عام 1957م. قبل عدة أيام، كنت في زيارة سريعة لجامعة الملك سعود بالرياض، وذلك بطلب مني شخصياً، لكي أقف عن قرب على تجربة هذه الجامعة السعودية المرموقة التي أصبحت الآن على كل لسان، سواء المحلي أو الدولي. ما يحدث الآن في هذا الصرح العلمي الرائع، يدعو للفخر والإعجاب، فهذه الجامعة أشبه بورشة عمل لا تهدأ أبداً. هناك حالة من الفوضى الرائعة التي لم أجد لها مثيلاً. آلاف الطلاب والطالبات في طريقهم لقاعاتهم الدراسية، ومئات العمال ينتشرون في كل مكان في سباق مع الزمن للانتهاء من تلك الأبراج الشاهقة، وتلك المباني الدراسية المتناثرة، وتلك المستشفيات والمراكز البحثية. جامعة الملك سعود، تواصل الليل بالنهار للوصول إلى التميز والتألق في مصاف الجامعات العالمية، كهارفارد وييل وكامبريدج واوكسفورد وكولومبيا. وأنا هنا، لست بصدد كيل المديح والثناء لهذه الجامعة الوطنية، ولكن ما لمسته وشاهدته يُشير إلى ذلك. ومع كل ذلك، فان جامعة الملك سعود، وكل الجامعات السعودية تواجه الكثير من التحديات والصعوبات التي تتطلبها المرحلة الراهنة التي تضع التعليم الجامعي في تحد مع التقنية وسوق العمل والتطور المذهل في هذا القطاع الحيوي، وقضية البحث العلمي التي تغيب عن جامعاتنا، والكثير الكثير من التحديات والعقبات التي تقف أمام تطور وتقدم جامعاتنا السعودية. إن جامعة الملك سعود كما شاهدتها تعيش مرحلة تطويرية هائلة، واضعة نصب عينيها تحقيق رؤية تقوم على بناء ثقافة المعرفة وتوطين التقنية والإسهام في تنمية وطنية مستدامة. بهذه الرؤية الطموحة باتجاه الريادة العالمية والتميز في بناء مجتمع المعرفة، ينتظر هذه الجامعة الكثير من العمل والجد والإصرار لتحقيق الإنجازات التي تُسهم في تنمية وتطوير الوطن. الكتابة عن هذه الجامعة الطموحة تحتاج إلي أكثر من مقال، وهذا ما أخطط له في قادم الأسابيع ولكن سأضع أمام عينيك عزيزي القارئ بعضاً من تلك الطموحات التي ستُغير واقع التعليم العالي السعودي. معهد الملك عبدالله لتقنية النانو، معهد الأمير سلطان لأبحاث التقنيات المتقدمة، برنامج الأمير نايف لدراسات الأمن الفكري، مركز الأمير سلمان لريادة الأعمال، برنامج أوقاف الجامعة (أكثر من 4 مليارات ريال )، وادي الرياض للتقنية، مركز الأميرة الجوهرة لأبحاث السرطان، برامج خدمة المجتمع الطبية، والكثير الكثير من هذه الإنجازات الاستثنائية. جامعة الملك سعود، ليست مجرد جامعة للتحصيل العلمي والفكري والثقافي، ولكنها منارة حضارية نفخر بها جميعاً.