ينص الحديث الشريف على أن المولود ، كل مولود ، يولد على الفطرة ، والفطرة هي التوحيد ، ما يعني إقراره في داخل نفسه على أنه مخلوق ، وأن ثمة خالقاً ، فلا تجد أحدا يكابر ، أو يجادل في هذا ، وكم تنوع السؤال في القرآن عن هذا المعنى ، ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ) . وحتى فرعون ، وهو فرعون ، لم ينسب الخلق له ، مع ادعائه الربوبية ! ولهذا كانت نجاة بدنه آية لمن خلفه ، إذ إن الرب لا يموت ، ولا تعتريه الحوادث . وهذا الحديث لا يفهم منه أن الانحراف إنما يكون بسبب الوالدين فحسب ، وإن كان هذا هو الغالب إلا أنه ليس محصورا في ذلك . وكم من أبوين صالحين عابدين تنكب ابنهما الصراط وحاد عن الطريق القويم ، فسلك سبيل المفسدين ، وأشرك برب العالمين . والعكس بالعكس ، فإنا ما زلنا نرى الناس يدخلون في دين الله ، مع كونهم نشأوا في بيئة كافرة من أي ملة ، فيسلم الرجل أو المرأة ويحسن إسلامه ، بل ويصبح داعية مفوهاً ، ونبراساً يقتدى به ، وأبواه يهوديان أو نصرانيان ، أو مجوسيان . لكن في الحديث ما يجعلنا نتفهم كيف ينشأ بعض فتياننا ، وهم الذين رضعوا التوحيد مع لبن أمهاتهم ، فيتنكبون الصراط المستقيم ، وتبلغ بهم جرأة الكفر والردة أن يتطاولوا على رب العالمين بما لم يفعله فرعون نفسه ، وبما نزه الشيطان وهو الشيطان نفسه أن يجادل فيه . ونفهم من الحديث أن العقل الفارغ من معلومة ولو خاطئة من الممكن أن تشغله بما أردت فينشأ متعلقاً به على أنه الحقيقة الوحيدة ، ويصعب عليه فيما بعد ، خاصة مع طول الزمان أن يتخلص منها ، بله أن ينقضها ويسلم لمنطق العقل والحق لو سمعه من مصدر آخر غير المصدر الذي تلقى منه أولى معلوماته تلك . وهذا ما يبينه قوله كل مولود ، فالمولود فارغ العقل من أي معلومة ، كما جاء في قوله تعالى ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا ) ولا يبدأ التلقي إلا ممن يربيه ، وهكذا يبدأ في التعلم ، ويحشو عقله بالمعلومات شيئا فشيئا . فالطفل نبتة ، أو عجينة تقولب في أي قالب شاء مربيه ، ويظل أسيرا لهذا القالب ربما عمره كله ، خاصة إذا كان مجتمعه يتبنى الحفظ والتلقين ، دون الفهم والتعليل . فإذا سلمنا بأن القالب الأول هو قالب الوالدين فإن تنمية فكرهما ، وتعليمهما ، وتنشئة الأسرة الواعية المتفهمة من أكبر أسس بناء المجتمع الواعي . والقرآن يربي أتباعه على التفكر والتساؤل والمناقشة ، والبحث عن البراهين والأدلة ، ذلكم أن حُسنه وصِدقه ، وأخلاقه التي يدعو إليها ثابتة في نفوس الخلق ، فلا يعدل عنها ، ولا يجادل فيها إلا من أسلم عقله للتقليد ، ورام تقديس منهج الآباء دون تمحيص . ونص القرآن ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ) وتكرر هذا في القرآن كثيرا ( بالبينات والزبر ) ( من بعد ما جاءهم العلم ) ( من بعد ما جاءهم البينات ) ( آيات للسائلين ) ( للعالمين ) ( للمؤمنين ) ( للموقنين ) ( أفلا يتفكرون ) ( أفلا تعقلون ) ( أفلا يبصرون ) ( أفلا يسمعون ) ، وغيرها . وفي سيرته صلى الله عليه وسلم نماذج من هذا ، كلها تعصر العقل ليعمل ، كما في سؤاله صلى الله عليه وسلم ( أتدرون ما المفلس ) وفي سؤاله ( أخبروني بشجرة تشبه ، أو : كالرجل المسلم ، لا يتحات ورقها ، ولا ولا ولا ، تؤتي أكلها كل حين ) الحديث . وغير ذلك . فإذا جمعت هذا مع هذا تبين لك أن تنكب بعض أشبالنا عن طريق الحق كان من أهم أسبابه التلقين دون إعمال العقل والتفكر ، بل أحيانا بمحاربة السؤال ، ولو كان شكاً ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول ( نحن أولى بالشك من إبراهيم ) . وإبراهيم الخليل ، عليه السلام ، وهو إمام الموحدين سأل ربه سؤالا بعلة ( ليطمئن قلبي ) فإذا اضطرب القلب احتاج إلى ما يطمئنه ، وهنا تأتي الأدلة والبينات والمناقشات ، والإصغاء إلى شبهات الشاكين ، وعدم الخوف منها ، كما سمع الله من أنبيائه بعض هذه السؤالات التي يراد منها الاطمئنان ، إذ لا يمكن أن يأتي السؤال إلا وقد انقدح في العقل شبهة ، كما في قول الملائكة ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) وفي قول زكريا ( رب اجعل لي آية ) . والممخضة من هذا أننا قد نعين من حيث لا نشعر على انفلات بعض أحبابنا ، وهروبهم إلى حيث يبحثون عن إجابات لسؤالات طرأت على أذهانهم ، فرؤيتهم للمجتمع في صورة معينة ربما جعلهم يحجمون عن إبدائها ، وربما تنامت ، وتعقدت ، واشتبكت خيوطها حتى لكأنها بيت العنكبوت ، فهي لا تحتاج أحيانا إلا إلى نفخة من فم صادق بحق ، فيدمغ الباطل الذي عشعش في ذهن المسكين فيصفو قلبه ، وتزول الغشاوة عن عينه ، فإذا تركناها فإن البصر كله قد يفقد مع طول الزمان ، ويغشى القلب ران الشبه والباطل فلا يكفي في غسل درنه نهر الحق ، ولا تجدى معاول الشريعة في هدم جبال الشك عنده ، فيهلك ، ونكون قد شاركنا في تهويده ، أو تنصيره ، أو إلحاده ، والله المستعان .