كنت دائما بإيمانٍ كبير من أن بناء الإنسان أولى من بناء الأوطان وأسبق إليها، وحقيقة المدنيّة أولى بالاتباع، تساءلت دائما بسذاجة عن جدوى وجود عدد كبير من الأصدقاء والإخوة والأبناء في أصقاع الأرض بغرض الدراسة حينما كان بإمكاننا دائما جلب أساتذتها إلينا وقد فعلنا هذا كثيرا، لكنني هنا في دالاس أدركت موقنا أن هذا التفرّق في الأرض رقية بناء مجتمع مدني للغد يقوم على أكتاف هؤلاء الأصدقاء المغتربين.. هنا التقيت بالأصدقاء أعضاء النادي السعودي في جامعة ( Southern Methodist! University) التي تعد من أعرق الجامعات وأكثرها ثراء، حيث تضم عددا كبير من أبنائنا المبتعثين شكّلوا جميعا وجها مضيئا للاغتراب على اختلاف أعمارهم وتخصصاتهم وشؤونهم وشجونهم، التقيت بهم في ليلة شعرية حميمية، أدركت من خلال تقاطعاتهم ومداخلاتهم وابتساماتهم وغربتهم أحيانا أننا على أعتاب مرحلة جديدة من التفكير المدني، وهو أكثر ما نحتاجه غدًا، مع اعتدادهم المطلق والمدهش بمبادئنا وعاداتنا وأخلاقنا الإسلامية، المدينة هنا مشغولة بالإنسان كهويّة، وبالمعاملة كوطن، وبالحياة كنظام وبالدين كخصوصية لهذا انعكست عليهم سلوكًا وعملا وتفكيرا واتصالا بالآخر، وقبل هذا وبعده تمسكا بعقيدتهم وأظنها كانت دائما إحدى أزماتنا الاجتماعية التي انبثقت فكرة الابتعاث من خلالها ضمن حكمة راسخة من لدن خادم الحرمين الشريفين حفظه الله. النادي السعودي هنا تكوّن هو الآخر مدنيا بالانتخاب بين أعضائه يترأسه الآن الصديق الشاب حسام كرديذو الحضور البشوش والأحلام العريضة يعاضده عدد كبير من الأصدقاء الدارسين لعل أبرزهم الصديق طارق الشهري أو ابن أختي زياد الصريصري الذي حملني إليهم وأدخلني بوّابتهم المدهشة في ليلة اتسمت بالنسب الجغرافي والتاريخي والتوافق المدني، خرجت من تلك الليلة ممتلئا بهم ممتنا لهم حينما أترفوا أحلامي فيهم، تحدثت معهم عنهم وسافرت معهم إليهم وحضر معي الشعر الذي اشتاقهم كثيرا كما اشتاقوه، لم يحدثوني كثيرا عن غربتهم حينما تحدثنا عن وطننا كانوا مؤمنين بأنهم مسؤولون عنهم بعيدا عنا ومبتعدون لأجلنا حتى انتهت تلك الليلة الحميمية بانطباعات لا تنتهي، ليس أولها أنهم عنوان غد نبيل وليس آخرهم أنهم مازالوا ذواقين جدا للشعر في بلاد اللا شعر...!