(كم مرة نعيش؟ كم مرة نموت؟ يقال إننا نخسر 21 غراماً في لحظة موتنا،كل واحد منا.. فما هو هذا الشيء الذي يزن 21 غراماً برأيكم؟ ما الذي نفقده؟ متى نفقد ال 21 غراماً؟ ما الذي يزول معها؟ وماذا نكسب؟ كم تساوي 21 غراماً؟!).. هذه تأملات عنيفة، عميقة، أطلقها رجل يحتضر، مُحطّم، على مشارف الموت، يشتم رائحة الفناء، والدمار، لكنه.. رغم المرارة والأسى، ليس الوحيد الذي يتألم، بل هناك أناس آخرون، أصحاء، يحيون المعاناة ذاتها، الضيعة ذاتها، ويشتَمّون ذات الرائحة الكريهة، رائحة الموت التي تسللت إليهم عبر نوافذ «الأحباب» لتلقي بظلالها على حياتهم، وتجعلها -بالتالي - حياة كئيبة قاتمة.. بهذا النفس الثقيل، الكريه، حيث الموت والسواد والكآبة، يقدم المخرج المكسيكي الشاب «أليخاندروا غونزاليس» حكايته وتأملاته البديعة في النفس الإنسانية، باحثاً عن سبب انحطاطها وهشاشتها إذا ما اضطرت لمواجهة فكرة «الموت».. إنها هشة، سهلة الانكسار، وترتبك بشدة حين تشم رائحة «الموت».. كيف يكون هذا؟.. تلك حكاية فيلمه الكئيب الرائع (21 غرام - 21 Grams ) وهذا مجال بحثه، فهو هنا يتابع حكاية ثلاث شخصيات، كل واحدة منها تربطها بالموت علاقة خاصة، فهناك من مات قريبه، وهناك من سيموت بذاته، وهناك ثالثٌ كان سبباً في موت فتاتين صغيرتين مع أبيهما الشاب.. إن ظلال الموت تطارد هؤلاء الثلاثة أينما حلوا وارتحلوا، وهي عازمة أبداً على نقش «خامة» السواد وطبعها على صفحة حياتهم.. الفيلم من إنتاج عام 2003، وهو من بطولة الثلاثي المبدع (شون بين - ناعومي واتس - بينيكيو ديل تورو).. النجم «شون بين»، في تلك السنة، كان متألقاً بشكل مدهش، فهو بعد غيبة نسبية يعود بفيلمين عظيمين، هما، هذا الفيلم (21 غرام - 21 Grams )، وفيلم (النهر الغامض - Mystic River) الذي حاز عنه أوسكار أفضل ممثل.. هو في (21 غرام) يؤدي ببراعة فائقة دور «بول» الذي يشكي ضعفاً في قلبه، وهو في طريقه إلى الموت المحتم، إذ لم يبق على وفاته سوى شهر واحد فقط، بحسب توقعات الأطباء الذين يؤكدون على حاجته إلى قلب جديد وإلا فإنه سيموت حتماً.. ويجد غايته في رجل دهسته سيارة قبل لحظات، وهو مؤهل للوفاة أيضاً، لكن قبل أن يموت تقوم زوجته بالموافقة على التبرع بأعضائه، وهكذا يتم إيداع قلبه في صدر المريض «شون بين»، وهكذا توهب له الحياة من جديد.. هذه الزوجة المفجوعة هي المبدعة «ناعومي واتس».. ومن دهس زوجها وابنتاها الصغيرتان، هو المجرم التائب «بينيكو ديل تورور».. وهكذا من حادث واحد يتم الربط بذكاء وسلاسة بين هؤلاء الثلاثة، بين أقدارهم، بين بؤسهم ومعاناتهم وألمهم الداخلي العنيف.. والربط بين مسارات عدة، بمثل هذه الطريقة الفاتنة التي تحرض دائماً على التأمل والتفكير، هي لعبة تميز بها المخرج (أليخاندروا غونزاليس) وبصمة تكاد تطبع كافة أفلامه، فهو قد قدم قبل هذا الفيلم، في العام 2000، رائعته المكسيكية (آميروس بيروس - Amores perros ) التي كانت متقنة بشكل يدعو للإدهاش فعلاً، يرغمك على النظر باحترام إلى السينما المكسيكية، وسينما أمريكا الجنوبية عموماً، والتي بدأت تنضج وتنطلق إلى العالمية بشكل ملحوظ وملفت في السنتين الأخيرتين تحديداً.. فيلم (آميروس بيروس) يتابع أيضاً حكاية ثلاث شخصيات، من طبقات اجتماعية مختلفة، كل شخصية لها مسارها الثابت المستقل، ولا تتقاطع مع الشخصيتين الأخريين إلا في «حادث سير» كان الثلاثة أطرافاً فيه، إذ هناك شاب فقير كان يهرب بسيارته المهترئة من عصابة تطارده، وهناك عارضة الأزياء التي تسير بتؤدة في وسط التقاطع، بينما هناك القاتل المأجور، العجوز المحطم، يسير على قدميه لحظة وقوع الحادث البشع بين سيارتي «الشاب» و«عارضة الأزياء».. هذا الحادث كان نقطة الالتقاء، ونقطة الانطلاق التي رصد المخرج من خلالها ذلك الأثر المؤلم للحادث على حياة هؤلاء البائسين، مؤكداً بالتالي أن «الهم» والمعاناة والألم ليست حكراً على طبقة دون سواها، بل الجميع يعاني، يتألم، ويبكي.. الفقير، الغني، الصغير، الكبير، الكل دون استثناء.. وبمثل هذا الأسلوب يقدم المخرج «أليخاندروا» حكاية فيلمه الأخير (21 غرام).. فالحكاية كما أشرنا هي لثلاث شخصيات تربطها علاقة بالموت، لكن الفرق أن الربط هنا جاء بشكل أكثر فخامة، إذ يعمد المخرج، من خلال لعبة سيناريوية هائلة، إلى بعثرة مسارات حكايته، وجعلها تتقاطع فيما بينها بشكل خلاب وساحر، فهو هنا، لا يعتمد نسقاً ثابتاً في بعثرته للأحداث، ولا يكتفي بجعل «حادث الدهس» نقطة «التقاء» واحدة - كما في فيلم (آميروس بيروس) الذي كان «الحادث» هو فرصة الالتقاء الوحيدة والنهائية بين شخصيات الفيلم - بل يزيد بأن حرّض الشخصيات لأن تتفاعل وتنصهر مع بعضها البعض حتى يتكون «قدرها» الواحد المشترك، ممهداً بذلك لنقطة الالتقاء العظيمة، مشهد الختام، الذي مثّل خلاصة بؤس هؤلاء، وخلاصة خيبتهم.. (21 غرام - 21 Grams ) فيلم نفسي فلسفي عظيم جداً، ومؤلم إلى حد كبير.. تألقت فيه المبدعة «ناعومي واتس» والتي يبدو أنها - بألقها الذي نثرته هنا - في طريقها لمزاحمة نجمات هوليود الشهيرات، فهي ومنذ ثلاث سنوات تقدم أدواراً لافتة وبديعة، قد يكون أشهرها دورها في رائعة ديفيد لينش (مولهولاند درايف - Mulholland Dr)، وأيضاً دورها في فيلم الرعب المثير (الخاتم - The Ring).. «ناعومي» ترشحت عن دورها في (21 غرام) لأوسكار أفضل ممثلة، وهذا طبيعي ومتوقع، نظير أدائها المتألق لشخصية الأم الحائرة التي تجد نفسها وحيدة، مسكونة بالهم، تلوك أحزانها وأوجاعها، وتبكي، وتنفجر ألماً وسواداً.. إنها حزينة حزينة.. منذ أن تلقت نبأ وفاة زوجها وابنتيها الصغيرتين، في بهو المستشفى، في مشهد هو الأجمل والأعنف - ربما - في الفيلم كله، إذ أبلغها الطبيب بالخبر، فماذا فعلت؟ لقد صمتت ببساطة، ثم من الأعماق جاءت «رعشة» انعكست على شفتيها، وعلى عينيها، رعشة لخصت كل مشاعر الذهول والصدمة والفجيعة.. أيضاً مشهد آخر، بطله هذه المرة المبدع (ديل تورو)، في السجن، بعد أن سلم نفسه إلى السلطات بعد حادث الدهس، هو يصرخ إلى صديقه القسيس مشيراً إلى رأسه: (هذا هو الجحيم)، وهي صرخة الحائر، الذي تاب بعد ضلال كبير، وآمن بالرب، وبعدل الرب، لكنه الآن يبدو متشككاً وغير موقن ويشعر بالخذلان الكبير بسبب الكارثة التي صنعها.. هو يقول: (لقد فعلت كل ما طلبه مني.. لقد تغيرت.. كرست حياتي له.. ثم ماذا قدم لي؟ لقد أهداني هذه الشاحنة كي أقتل هاتين الصغيرتين.. هل أراد لي الألم؟ لماذا أراد لي الألم؟! ..)..