كثيرة هي الصور النمطية التي من المفترض أن نتخلى عنها منذ زمن، لكننا مازلنا نحتفظ بها على المستويين الرسمي والشعبي، من ذلك ابتعاد أو خوف البعض من الإبلاغ عن قضية، أو حادثة شاهدها، على طريقة "وش دخلني أنا"!. وعلى الرغم أن الإبلاغ يختصر الزمن والجهد للوصول إلى الفاعل أو الجاني، إلاّ أن الصمت قد يكون سبباً لإبقاء المتسبب طليقاً، بل وقد يؤدي إلى دخول البريء داخل قفص الاتهام. وربما تكون حالة الخوف مبررة لدى أي منّا، لكنها لن تكون كذلك لدى الجهات الأمنية، أو الرقابية، مثل هيئة مكافحة الفساد، وهيئة الرقابة والتحقيق، وبين هذا التبرير وذلك الرفض، يبقى الشخص يصارع تأنيب الضمير، ورغبة داخلية للإبلاغ عما شاهده، وفي جانب آخر خوف من انتقام الجاني، في ظل عدم وضوح الصورة في طريقة حمايته وعدم انكشاف اسمه. تحقيق "الرياض" يطرح أهمية حماية المبلِّغ من أي تجاوزات قد تنال منه. جهات أمنية ورقابية تحفظ «سرية التبليغ» وتدافع عنه وتتصدى لتهديد الجاني أمام القضاء أسلوب التحري في البداية أكد الشيخ "عبدالباقي آل الشيخ مبارك" رئيس المحكمة الجزائية بالأحساء، أن في الإبلاغ جانب من النصح للأمة الذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولأن المُبلِّغ قد يتعرض للأذى، فقد جعلت الجهات الأمنية والرقابية هذا الجانب في غاية السرية، من حيث أرقام الهواتف الخاصة والجهة والمصدر، مشيراً إلى أن الجهات الأمنية تتبع أسلوب التحري وإذا اتضح لها شيء من الأدلة والقرائن، فإنها تتخذ الإجراءات اللازمة، مبيناً أنه في أقصى الأحوال لو خرج أمر هذا المبلِّغ، فإنه في هذه الحالة يستطيع أن يحفظ حقوقه بطريقتين، الأولى كفّ الأذى أو التحرز من وقوع شيء، من خلال الإمارة أو الشرطة، والثانية التقدم إلى المحكمة إذا أحس ببوادر التهديد، لافتاً إلى أن المحكمة بدورها إذا تبين لديها بالقرائن والأدلة صحة هذا الكلام، فإنها تصدر حكما شرعيا بعدم التعرض له وكف الأذى عنه، موضحاً أنه لا سمح الله إذا حصل شيء، فالشرع والنظام في المملكة يحفظان الحق للمعتدى عليه، وإذا حصل ما يوقع التعزير يؤدب تأديباً رادعاً، وإن صدر منه ما يوجب الحد، فيقام عليه أيضاً. الجهات الأمنية تحث دوماً على الإبلاغ عن القضايا المجهولة حس وطني وأشار "د. خالد بن سعود الحليبي" أستاذ كلية الشريعة والدراسات الإسلامية التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالأحساء ومدير مركز التنمية الأسرية بالمحافظة، إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب شرعي بحسب الاستطاعة، مؤكداً أن المبلِّغ لا بد أن تكون لديه من الشجاعة والحس الوطني والديني في الإبلاغ عما يراه، وأن الإحجام عن التبليغ قد يأثم عليه الإنسان. الشيخ عبدالباقي مبارك وأوضح الشيخ "عبدالباقي" أن هذا الأمر تنظر إليه الشريعة الإسلامية من باب النصيحة، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "الدين النصيحة"، مضيفاً أن الإنسان يجب أن يبلغ عن الفساد؛ لأنه إذا سكت عنه استشرى وعم الفساد، بل واستمرئ المنكر، والرسول يقول: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"، مشيراً إلى أن حكومتنا لم تقصر إطلاقاً، بل ووفرت وسائل للإبلاغ، لهذا يجب عليه أن يبلغ بالطريقة التي يستطيعها، ولا يكلف الله سبحانه وتعالى أقصى من ذلك. د. خالد الحليبي عيون وآذان وشدد "د. الحليبي" على أن نشر ثقافة التبليغ يقع على مؤسسات المجتمع، كما أن على الأسرة أن تفك عقد الخوف من أعناق أفرادها، وأن تشجعهم ليكونوا عيوناً وآذاناً لأمن مجتمعاتهم، لا ليرموا بريئاً، ولا ليسعوا في نميمة وإفساد لذات البين، ولكن ليبلغوا عن مجرم يريد أن يقلق أمن البلاد، أو مفسد يريد أن ينشر في الأرض الفساد، مبيناً أنه واجب أئمة الجوامع، والمعلمين في مدارسهم، والإعلام بكل أجهزته. د. سعد الناجم وتساءل "د. سعد الناجم" أستاذ الإدارة التعليمية في كلية التربية بجامعة الملك فيصل: هل الدافع عن التبليغ وطني، أم مادي، أم كيدي؟، مضيفاً أنه إذا كان البلاغ وطنياً مجرداً، والبلاغ فيه مساس بأمن الوطن وسلامة أفراده، فان ذلك يدخل من باب الواجب وإنكار المنكر وحصار أهله، وإذا كان من باب آخر، فاعتقد أنه يحتاج إلى رؤية في استقباله، وكذلك بعض المعايير، حتى لا يقع الناس في الظلم، ويرتقي البعض على رقاب الآخرين، مشيراً إلى أن لكل جهاز أمني رجاله المحددين والمدربين للتعامل مع هذا النوع من الأحداث. د. عبدالحميد النعيم وقائي وعلاجي ولفت الشيخ "عبدالباقي" إلى أنه إذا ثبت لدى المحاكم أن البلاغ ليس له طبيعة الثبوتية والقرائن، فتلغى المسألة، وهذا مهم جداً في جانب تشجيع المبلغين، مضيفاً أن الذي يبلغ يؤجر ويحفظ الأمة، وإنكار المنكر جانب مهم في ديننا الحنيف لمكافحة الجريمة، وهو ما يسمى بالجانب الوقائي، مشيراً إلى أن مكافحة الجريمة فيها جانبان الأول وقائي والآخر علاجي، والقاعدة الشرعية تنص على أن الحدود زواجر وجوابر، فهي علاج للجاني - لكونه مريضا يعالج بالتأديب والزجر -، ووقائي عبر توعية المجتمع بالنصح، وكذلك التوجيه بالتربية والتعليم، والتذكير بالترغيب. المقدم زياد الرقيطي وقال "د. عبدالحميد أحمد النعيم" وكيل كلية التربية بجامعة الملك فيصل والمتخصص في علم النفس التربوي: إن ثقافة التبليغ تتحقق بعدة طرائق، منها التعليم، فالمعلم الجيد له تأثير كبير في طلابه في توضيح خطر هذه الأمراض - الجرائم والغش والفساد - مشدداً على أنه يجب علينا محاربة هذه السلوكيات بتجنبها والحذر من الوقوع فيها، امتثالاً لقوله تعالى "والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً"، مبيناً أن مثل هذه القيم تمثل جانباً وجدانياً انفعالياً في السلوك، يجب أن يحققه المعلم وليس التركيز في الجانب المعرفي. فوضى وانتقام وذكر "د. الناجم" أن الخطأ عندما ننظر إلى الموضوع على أنه ثقافة في المجتمع، وبالتالي ممكن أن يكون مدعاة للفوضى والانتقام، داعياً المبلغين لاتباع وصفة يعتقد أنها ستنزع الخوف والرهبة من نفوسهم، حيث دعاهم إلى تقوى الله أولاً، حاثاً على الوقوف سداً أمام الفساد مهما كان، ابتداءً بأنفسهم ومن حولهم، وأن لا يكون تبليغهم عن أمور لو صحت لهم لسكتوا، موضحاً أنه إذا كان عملهم وطنياً وخالصاً لوجه الله، فلن يضير أحدهم؛ لأن الله يدافع عن الذين آمنوا، وكذلك لا يفلح عمل المفسدين. وأكد "د. النعيم" أن الأسرة لا تقل شأناً عن دور المدرسة، بل كل منهما مكمل للآخر، متسائلاً: "كيف بأمور تخالف الشرع والعقل والعادات والتقاليد"؟ مشيراً إلى أن الإعلام المرئي له دور فعّال، وخاصة في اغتنام الأوقات، مبيناً أن الخوف جانب انفعالي يسبقه جانب عقلي، وهو إدراك للموضوع أو المثير، ذاكراً أن الخوف ناتج من خشية فقدان الحاجة للأمن، وهو طبيعي وفطري لدى الإنسان، ولكن الذي يُعد مرضاً هو الخوف من الأشياء التي لا تستحق الخوف، كأن يشعر بأن قيامه بالتبليغ عن مثل هذه السلوكيات في المجتمع قد يكون هو الضحية القادمة، سواء في غش أو جناية. تشديد العقوبة وأوضح "د. النعيم" أننا نحتاج إلى أن نوضع أنظمة لا تخترق بالتفسيرات الشخصية للوائح، لغياب الأدلة الإجرائية في الدوائر للعمل اليومي المحدد بمعايير ثابتة، كذلك الحقوق والواجبات وصلاحيات الأفراد وحدودها، مضيفاً أن مثل هذا العمل بحاجة إلى حوار لصفوة من المواطنين، معتقداً أن من وسائل حماية المبلِّغ تشديد العقوبة ومضاعفتها على الجاني، ففي حالة تعرضه لأي اعتداء شفوي أو خطي أو بدني، فإن الاعتداء عليه هو اعتداء وإيذاء لرجل الأمن، وهنا يجب تشديد العقوبة عليه. وأوضح "د. الناجم" أن الجهات الأمنية لها طرائق خاصة للتواصل مع المبلغين، والتأكد من صحة البلاغات ومسوغات الإدانة بالتحقيق والمتابعة، مؤكداً أن هناك أمورا تتداخل فيها أكثر من جهة أمنية، وأحياناً يفقد التنسيق، انطلاقاً من سرية عمل كل جهة لتضيع الجهود. رمز محدد وقال المقدم "زياد بن عبدالوهاب الرقيطي" الناطق الإعلامي لشرطة المنطقة الشرقية: إن من البلاغات ما يمكن إدراجه بالأمر العادي في الكشف عن شخصية المبلِّغ، ومنها ما يتحتم على جهة ضبط البلاغ التحفظ على معلوماته، إما لسرية البلاغ وخصوصيته، أو حفاظاً على سلامته، مضيفاً أنه في تلك الحالات يتم التعامل مع بيانات المبلِّغ والتواصل معه بسرية تامة، بما في ذلك استبدال الاسم برمز محدد، إضافةً إلى قصر البيانات الخاصة على جهة الضبط؛ لإمكانية التواصل معه في نطاق القضية، مشيراً إلى أنه يتم التعامل بشكل مستمر مع العديد من القضايا التي تعنى بمثل تلك البلاغات. وأوضح "د. الحليبي" أنه يجب أن يشعر المبلِّغ بأنه في أمان، من خلال أرقام سرية تحتفظ بكامل المعلومات الخاصة به، وأن يكون التعامل معه راقياً، بل ومحفزاً لاستمراره، وألاّ يقلق بكثرة الاستدعاءات، إلى جانب ألاّ يتحول الحديث معه إلى تحقيق ونوع من الضغط النفسي، بل يجب أن يكون مملوءاً بالتقدير. وحدة مستقلة وذكر "د. الحليبي" أنه إذا جبن المواطن أو المقيم عن تحمل أعباء وتبعات التبليغ عن قضية فساد، فلعله يكون يوماً ضحية لقضية أخرى، أو جريمة، مضيفاً أن من حق المبلغ أن يُحمى بتشريع، ولكن ليس من حقه أن ينتظر حتى يصدر هذا التشريع أو يعلم به، لقد وصل الأمر ببعض المارة بحوادث مرورية أن يتركوا النازفين يموتون من دون أن يعملوا أي إجراء!، متسائلاً: "أية نفس هذه التي تبقى جامدة أمام استغاثات الإنسان في لحظات حياته الأخيرة"؟. واقترح "د. النعيم" إنشاء وحدة في كل إمارة أو محافظة مستقلة، مخصصة لاستقبال البلاغات، على أن يكون اسم المبلِّغ لا يعرفه إلاّ هو والموظف الذي استقبل البلاغ، مؤكداً أنه بهذه الخطوة ستضمن السرية، وبذلك يتحمل موظف المحافظة أو الإمارة المسؤولية في حال انكشف اسم المبلغ، مشيراً إلى أنه من المهم توفير وسيلة تساعد المبلغ على توفير الأمن لنفسه، كأن يكون لديه خط ساخن برجال الأمن لطلب المساعدة، متى ما أحس بخطر يهدد أمنه.