الثقافة في الجزيرة العربية ممتدة بجذور تغوص في أعماق الزمن لآلاف السنين حسبما تشهد به الآثار المتبقية عن الإنسان صانع تلك الثقافة. وهذا البعد لا تجده في أغلب الأدبيات المنشورة القائمة على مصادر مكتوبة أوحت بأن الجزيرة العربية ذات ثقافة متقطعة ووقتية ودون جذور تأصيلية، وهذه النظرة جاءت نتيجة لمنهج كتابة تراكم عبر عصور مختلفة نحو تسطيح تاريخ إنسان هذه الجزيرة وتهميش دوره في الثقافة العالمية، وان تفاوت هذا التهميش من جزء إلى آخر. ربما ان مرد هذا التهميش جزئياً إلى البعد المكاني بين من كتب عن تاريخ إنسان هذه الجزيرة والجزيرة ذاتها، أو ربما انه الاقتصار في النظرة على زمن معين لسبب من الأسباب. فالنسبة إلى البعد المكاني فاقصد به كون من كتب عنها من غير أهلها وربما انه لم يحل بها مطلقاً، فمن حيث أمهات الكتب التاريخية مثل تاريخ الأمم والملوك أو البداية والنهاية أو البدء والتاريخ أو الأغاني...الخ جميعها كتبت بأقلام باحثين عاشوا خارج الجزيرة العربية واستمدوا معلوماتهم من مصادر كالشعر العربي القديم أو الرواية الشفهية لأحداث الأمم أو مصادر أخرى سماعية أو نقلية، ونادراً ما اعتمد المؤرخ في ما يأتي به على الشاهد الموجود على الأرض مباشرة والذي يعد من أقوى الشواهد وأخصبها. وكذلك الحال مع الكتب ذات الطابع المكاني مثل المعاجم الجغرافية والتي أشهرها وأشملها اثنان هما معجم ما استعجم للأندلسي ومعجم البلدان لياقوت الحموي ، فمع انهما تحدثا عن الجزيرة العربية بإسهاب إلا انهما كتبا بقلم أندلسي وبغدادي فاعتمد ما جاء فيهما على الرواية ومدونات قديمة تبتعد عن الحديث عن الماضي وشواهده الحضارية نتيجة لعدة أسباب من بينها عدم المشاهدة الميدانية، وعليه فما جاء فيها لا يستند إلى المظاهر الحضارية التي توجد في أنحاء الجزيرة العربية ولا تزال قائمة على وجه الأرض. وجاءت كتابات القرون المتأخرة «1113ه» عن الجزيرة العربية متجهة نحو تأسيس ما كتبت عنه من فراغ، فعلى سبيل المثال عندما نستعرض ما جاء في كتب التاريخ التي كتبت عن أحداث القرن الثامن وما بعده نجدها تتحدث عن إنسان الجزيرة العربية وكأنه وافد إليها من أماكن أخرى، فهناك عبارات يستخدمها مؤرخو ذلك الوقت تدل على ما ذكرت مثل «عمّر المكان الفلاني»، «اعاد تعمير المكان الفلاني»، دون ذكر من سبقه في تعميره أو ما يوجد فيه من أثار؛«نزل فلان على فلان فزاحمه في أرضه فنزح أحدهما إلى مكان آخر، مثل قصة تعمير بلدة حرمة وجارتها بلدة المجمعة» دون ذكر لمن سكن المكان من قبل أو ما كان يوجد فيها من آثار. وعندما نقابل كلام أولئك مع ما يوجد على أرض الواقع نجد أن الأماكن التي يتحدث عنها المؤرخ هي أماكن صالحة للاستيطان عبر الأزمنة المختلفة لأن عوامل جذب الإنسان إليها عوامل مكانية صالحة لكل الأزمنة، ولذا فالأماكن أماكن وجود للإنسان عبر عصور مختلفة بل هناك صراع بين المجتمعات البشرية من أجل الاستيلاء عليها وامتلاكها والاستفادة منها، ويدل على ذلك ما يوجد فيها من شواهد آثارية باقية فيها أو حولها وعلى وجه الخصوص تلك الحصون المنيعة والأسوار الحصينة. ولكن نجد المؤرخين قد تجاهلوا ذلك في ما كتبوه. ولنبين ما نقصد، نضرب مثلا في محافظة الخرج ذات الامتداد الذي لا يزيد عن مائتين كيلومتر، فمن حيث ما جاء عنها عند المؤرخين القدامى لا يبعد باستيطانها إلى أكثر من الزمن الجاهلي، وان أبعد أكثر لا يتجاوز فترة قبيلتي طسم وجديس تلك الفترة التي يظن انها تقع في الألف الأول قبل الميلاد. وعلى العكس تدل الشواهد الأثرية على بعد حضاري أطول زمناً منذ عصور موغلة في القدم، اثبتته تواريخ كربون 14 التي نشرت بخصوص مواد آثارية ملتقطة من مواقع آثارية في «الرفائع» ونشرت في حولية «أطلال» السعودية بعضها وصل إلى سبعة عشر ألف سنة قبل ميلاد المسيح عليه السلام. وتدل كثرة المدافن القديمة السابقة للإسلام في محافظة الخرج على الكثافة السكانية، فمدافن جبال الشديدة وجبال القصيعة وجبال الدام وجبال العفجة تدل دلالة قاطعة على بعد زمني وكثافة بشرية، فعلى سبيل المثال نجد ان بعض مواقع المدافن يمثل مساحة قد تصل إلى عشرين مليون متر مربع، وهذه مساحة مهولة مخصصة لدفن الموتى ربما لا يوجد لها مثيل في قارات العالم القديم. وعندما جاء من كتب في العصر الحديث استند إلى ما كتب أولئك المؤرخون فرسم الصورة ذاتها بل قد يكون ساهم في تسطيح ما كان مسطحاً أصلاً من خلال الاعتماد شبه الكامل على المكتوب والابتعاد عن الشاهد المادي الثابت أو المنقول الناتج عن وجود الإنسان في المكان المتحدث عنه والعاكس لنشاطاته المختلفة. وعليه فهذه العوامل ساهمت في تقطيع ثقافة الجزيرة العربية زمنياً وتسطيحها نوعياً وابعاد تأصيلها. ولكن الواقع يقول ان ثقافة الجزيرة العربية المادية قابلة للتأصيل قرون تتبع قرونا، فوجود الإنسان في هذه الجزيرة متواصل دون انقطاع، وثقافته متواصلة أيضاً بعضها قائم على بعض، وعلينا نحن إبراز ذلك وتوثيقه وتقديمه للآخر.