كثيراً ما أعود إلى كتاب «الطريق إلى الإسلام» الذي ظل قريباً إليّ منذ أكثر من ربع قرن. والعنوان الأصلي للكتاب هو «الطريق إلى مكة» كتبه رحالة نمسوي يدعى «ليوبولد فايس» ولد في عام 1900 وتوفي في عام 1992 وكان أسلم، وتسمى ب«محمد أسد». انجذبت إلى الكتاب الذي رسم ببراعة نادرة تجربة مزدوجة يكشف فيها الإسلام والمجتمعات الإسلامية معاً. لغته صافية، وأفكاره صادقة، وتصويره غني، وأحاسيسه مرهفة وعميقة، وتركيبه عجيب. يتزامن فيه مستويان مادي وروحي، ففي الوقت الذي يتقدم فيه كرحالة لاكتشاف المجتمعات الإسلامية، ينبثق في داخله تحول ديني للانتقال من اليهودية إلى الإسلام، وينتهي بالربط بين المعرفة والتحول بما لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، وفيما يبدأ «محمد أسد» برحلته المضنية من نجد إلى مكة برفقة دليله زيد، تتوازى في كل مرحلة من مراحل رحلته الصحراوية تجربتان: حياتية وروحية، بما يمثل توازياً محكماً بين السرد والحكاية، وداخل كل منهما تضمينات متناثرة، وحالما يبلغ مشارف مكة، يبلغ أيضاً نهاية وصف رحلته الروحية إلى الإسلام، ولكن ليس عبر بناء متتابع للأحداث، إنما في انتخاب أحداث متداخلة تعبر عن ذرى التحولات النفسية لديه، والكتاب لا ينتهي عند هذا الحد، إنما هو كشف حفري أنثروبولوجي، وتاريخي، وديني، واجتماعي، وسياسي، لشبه الجزيرة العربية في العقد الثالث من القرن العشرين، ولكثير من المجتمعات الإسلامية في إيران، والعراق، ومصر، وشمال افريقيا، حيث يجوب هذه الأماكن في مهمات كثيرة. ولطالما خلب لبي هذا الكتاب من قبل ومن بعد، لقوة الوصف والاستنتاج والتحليل وللمهارة التي تجعلني أغبط المؤلف على قوة بصيرته في تأليف كتاب لا ينسى. مناسبة هذا الحديث صدور سيرة «محمد أسد» بالفرنسية مؤخراً وهي سيرة تكشف المسار الذي قاد ليبولد الطفل من النمسا إلى العالم الإسلامي، وكما يقول أنطون جوكي - الذي قدم عرضاً وافياً للسيرة سنستفيد منه في هذه المقالة للتعريف بأسد - فصفة «مستشرق» تبقى ضعيفة لتحديد هذا الرجل الذي افتتن بعالمنا العربي والإسلامي منذ اللقاء الأول، فأمضى معظم سنوات حياته يطوف في أنحائه على الرغم من أصوله اليهودية، ينتسب فايس لأسرة يهودية نمسوية. ومنذ الثالثة عشرة من عمره، شعر بالحاجة إلى ملء فراغ روحي فانكب على دراسة التوراة والتلمود. لكن المفهوم «القبالي اليهودي» المشغول بمصير أمة واحدة فقط تضارب ومفهومه لله بوصفه خالقاً لجميع البشر وراعيهم، الأمر الذي أبعده عن ديانته، فلبى في عام 1922 دعوة خاله المقيم في فلسطين لزيارته، وفور وصوله أولع بحياة العرب وطبيعتهم فشكِّل ذلك أحد أسباب تعاطفه معهم والتزامه مصالحهم وقضاياهم. قال عن سكان القدس العرب: منذ البداية، أعطوني الانطباع بأنهم السكان الأصليون لهذه البلاد، فقد كانوا مربوطين بالأرض وتاريخها ومندمجين في مناخها. ولدى إقامته الأولى في فلسطين، انشأ صداقات في المحيط العربي أكثر مما في المحيط اليهودي الذي كان يحذر. أحس فايس أن قدره هو الإسلام. ولعل أكثر ما جذبه في الإسلام هو فكرة ابتكار حضارة لا مكان فيها للقوميات الضيّقة والمصالح الخاصة ومفهوم الطبقات بين البشر والكهنوت. وفي عام 1927، غادر أوروبا إلى الشرق ومكث خمسة وعشرين عاماً من دون انقطاع «بلا إنذار وصل عالمي القديم إلى نهايته، عالم مشاعر وطموحات وتصورات غربية. انغلق الباب خلفي بصمت لم أع فيه شيئاً». وحين وصل إلى المملكة العربية السعودية انغمس هناك في دراسة الإسلام وحسّن لغته العربية، وتقرّب إلى الملك عبدالعزيز آل سعود الذي اهتم بوجهة نظره حول الغرب، وحال العالم العربي، فجعله مستشاراً خاصاً له مدة طويلة، وزوّجه، وقد فصّل علاقته الوثيقة بالملك في كتاب «الطريق إلى مكة» وغادر السعودية في عام 1932 لزيارة الهند والصين واندونيسيا. وفي مدينة لاهور الباكستانية التقى الشاعر والفيلسوف محمد اقبال الذي أقنعه بالبقاء لمساعدته في أعماله الفكرية، فأغرته الفكرة وأنسته حبه للترحال، فتعلم لغة البلاد، وسرعان ما نشر في عام 1934 كتاب «الإسلام على مفترق الطرق» الذي عالج فيه موضوعاً إسلامياً صرفاً، ودعا إلى تجنب تقليد أنظمة الغرب الاجتماعية وقيمه المادية وإلى المحافظة على الإرث الإسلامي، ودعم فرضياته بمسألة أن الحضارتين الغربية والمسلمة ترتكزان على مفاهيم حياتية متضاربة كلياً وغير متلائمة روحياً. وعرف هذا الكتاب رواجاً كبيراً فأعيد طبعه مرات عدة وترجم إلى لغات عدة. وشكّلت الترجمة العربية التي صدرت في بيروت عام 1946، المرجع الأساس لكتابات سيد قطب الأولى. استقر فايس/ أسد، بعد سجنه من قبل البريطانيين لست سنوات كونه مواطناً من دول المحور، في مدينة لاهور، حيث اشتغل على صوغ دستور ذي طابع إسلامي، وتم تبني النص في عام 1956 دستوراً للباكستان. وأمضى عامين ممثلاً لباكستان في الأممالمتحدة، وواجه لدى عودته غيرة وحسداً من بعض المسؤولين الباكستانيين، فقدم استقالته من منصبه الرسمي وكرّس وقته للكتابة منذ ذلك الوقت. وبدأ أولاً برواية قصة ضياعه الشخصي، واكتشافه الإسلام في كتاب (الطريق إلى مكة - 1954) ثم عمل على كتاب (الإسلام والغرب: مقابلة بين عالمين - 1960) فكتاب (مبادئ الدولة والحكم في الإسلام - 1961) الذي هو دراسة تحليلية لمبادئ الشريعة الإسلامية التي تشكل أساساً لدستور دولة إسلامية. بعد ذلك، قام بترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الانكليزية بأسلوب مبسط يتوجه فيه إلى القارئ الذي يجهل الإسلام وحضارته ومفاهيمه. بقي فايس/ أسد ناشطاً كتابة وسفراً بين الشرق والغرب إلى آخر أيام حياته التي أمضاها في اسبانيا، حيث أوصى أن تكون المقبرة الإسلامية في غرناطة مثوى له. حبذا لو تلفت الجهات المختصة لترجمة هذه السيرة الخاصة برجل أمضى جل عمره في التعريف بالإسلام والعالم الإسلامي.