بوابة عشتار هي أحد أروع الآثار الباقية من الحضارة السومرية القديمة،والتي تعكس في بنيانها مدى التقدم الحضاري لشعوب الرافدين ؛ حيث عند ملتقى النهرين نشأت بواكير الحضارات البشرية التي تفوقت في الزراعة والفلك والصناعة والفنون والآداب ، ومن خلال المواسم الزراعية هناك مابين موت النبات وحياته نشأت الدراما الكونية حول الموت والبعث ، موت تموز( روح النبات ) وم ثم مواكب تتقدمها عشتار للطم والحسرة على الفقيد , قبل أن تستجيب الأرض وتبعثه كرة أخرى مع ظهور النبات وجريان الماء في النسغ.. هذه الدراما التي كانت تلعب بها الأنثى دور البطولة انتشرت في الكثير من الحضارات الزراعية في الهلال الخصيب ومصر . هذه البوابة للمفارقة لم أشاهدها في العراق أو عند مصب الرافدين ، بل رأيتها في العاصمة الألمانية (برلين) وبالتحديد في متحف برجامون ، والبوابة وصلت هناك على يد الأثري الألماني روبرت كولديفيه الذي كان ينقب عن الآثار في منطقة أطلال بابل في مطلع القرن العشرين. البوابة بنيت في القرن الخامس قبل الميلاد، ويبلغ ارتفاعها 12 مترا، وتزخر واجهتها ذات اللون الأزرق برسوم زاهية تجسد الأُسُود والتنانين والثيران. وكانت البوابة جزءا من الخندق المائي الذي كان يحيط بحدائق بابل المعلقة، إحدى عجائب الدنيا السبع. وللمفارقة سعدت للغاية برؤيتها هناك , فالمهنية العالية التي يدار بها ذلك المتحف ، والوعي العلمي بأهمية الآثار وتقديم آخر ما توصلت له التقنية في الحفاظ على التحف الأثرية جعلتني أشعر كأنها يتيم انتُشل من الدمار والحروب والفقر والبؤس ، وسُلم إلى عائلة ميسورة تحتضنه وتحدب عليه . فمتحف (برجامون) في برلين يحوي نخبة من المقتنيات العالمية يندر أن تراها مجتمعة في مكان واحد ، والمبنى كان قد تعرض لقصف شديد أثناء الحرب العالمية الثانية من قبل جيوش الحلفاء ولكن استطاع الألمان لاحقا ترميمه وتطويره كأبدع مايكون والحفاظ على مقتنياته بأحدث ماتوصلت لها التقنية في هذا المجال . ومايلفت النظر هناك الجناح الإسلامي في المتحف الذي يحوي مجموعة نادرة من المقتنيات الإسلامية على مر العصور وامتداد رقعة العالم الإسلامي ، وأجملها برأيي الشخصي هو واجهة قصر (المشتى) الذي بناه الوليد بن عبدالملك عام 92 ه على حدود الجزيرة العربية حيث جعله مستقرا لرحلات الصيد أثناء موسم الشتاء آنذاك. هذه ومضة سريعة عن متحف برجامون الذي يحوي الآن مجموعة من الآثار السعودية في زيارة ستستمر عدة شهور ، وأعتقد أن اختيار هيئة الآثار لهذا المتحف لعرض آثار المملكة فيه هو اختيار رائع ومدروس ، لاسيما أن الهيئة قد وقعت عددا من الاتفاقيات مع مجلس الآثار الألماني في المتحف في ما يتعلق بالتنقيب عن الآثار في المملكة ، على اعتبار أن الجزيرة العربية هي الحاضن الأول للعرب البائدة والعرب الباقية وحضاراتهم ,وبين تضاريسها هناك الكثير من الفتوحات والاكتشافات الأثرية المتوقعة . وأعتقد أن المهنية والدقة والانضباط بالاضافة إلى التفوق العلمي الألماني قادرة على التنقيب عن هذه الآثار واستجلابها إلى الواجهة وفق آخر ماتوصلت له التقنيات الحديثة والحفاظ عليها من الإهمال والجهل والاندثار..