أين عقلك؟ أشغلني هذا السؤال في فترات مختلفة من حياتي، أحيانا كنت أسمعه يتردد باستنكار حين يعيب أحدهم على الآخر فكرة لا يتفق معها أو تصرفاً يرفضه؟ وأحيانا كنت أسمعه سؤالاً جاداً حين يكون النقاش عن العقل ومفهومه وكينونته. نماذج كثيرة من التصرفات لك ولمن حولك تعطيك تصورا لهذا العقل الذي يخدعك أحيانا، يجاريك حينا ويعاندك أحيانا، يوقظك من سباتك في أحيان أخرى، قد يضرب عن العمل يوماً أو ساعة ثم تجده متدفقاً بالأفكار والإنتاجية في ساعة أخرى، قد يفكّر وينتج بحيادية واستقلالية في ساعة وقد ينحاز تحت الوصاية في ساعة أخرى. علاقتي بعقلي علاقة بدأت بالتغييب في مرحلة الدراسة الأولية حيث لم يكن التفكير مطلبا ملحاً إلى مرحلة تشبيعه بالمعلومات والكتب والأفكار والتجارب الأدبية والفنية والعلمية في مرحلة اكتشاف الكتاب والبحث عن طريق للمعرفة، إلى مرحلة التواصل العقلي والفكري مع الآخرين أثناء الدراسات العليا حيث كان النقاش العلمي متطلباً، إلى مرحلة اكتشاف عقول الآخرين والتواصل معها حين انتقلت من كرسي الطالب المتلقي إلى كرسي الباحث الذي مازال يتعلم حتى وهو يظن أنه يعلم! الدماغ في شكله التركيبي مبهر كما أنه في وظائفه مبهر أيضاً، الحديث في فترات سابقة كان عن حجم الدماغ وعلاقة ذلك بالتفوق الفكري والعقلي ونظريات علمية كثيرة تم نقضها أو إثباتها، ثم انتقل وتطور هذا النقاش ليشمل وظائف هذا الدماغ الذي ما زلنا نجهل عنه الكثير، إلى دراسة الأمراض التي تصيبه وتؤثر على تمازجه الفكري وتواصله مع البيئة المحيطة به، من محاولة تتبع التموجات العقلية أثناء التفكير إلى التأثير الدوائي لبعض العقاقير، إلى اكتشاف موروثات لها علاقة بالتطور اللغوي مثلاً، إلى تفصيص الدماغ تشريحياً وعلاقة كل جزء تشريحي بوظيفة حيوية، إلى دراسة أمراض معينة تؤثر على وظائف أدائية عقلية محددة في محاولة لفهم طريقة عمل هذا الدماغ من خلال معرفة مسببات المرض وميكانيكية عمله أو تطوره المرضي، إلى النقاش الدائم الذي لا ينتهي عن التأثير البيئي والوراثي والعلاقة بينهما وهو نقاش لاينتهي حين نتحدث عن عضو غامض ومهم مثله، نقاش يجعلك تفكر كثيرا في الوظيفة البيولويجة التي يقوم بها هذا الذي نسميه عقلاً أو مخاً أو دماغاً. المخ العقل كأداة تفكير أشبعه المفكرون حديثاً، إنتاجنا العلمي والفكري والأدبي والفني صورة تجسد إمكانيات هذا العقل وقدراته كما تجسدها آلات الحروب وأسلحة الدمار وتوثقها اختراعاته كما توثقها حماقاته، ونظل ندرس نبحث ونظل نستخدم عقولنا في محاولة لفهم وظائف الدماغ.