قبل حوالي الشهر أطلّ سمير قصير على شاشة تلفزيون «المستقبل»، كان يمكن أن تعبر مداخلته كما تعبر مداخلات كلّ الصّحافيين المشاكسين المناضلين الذين اعتدنا سماعهم في لبنان، حيث ظلّ سقف الحريّة الإعلاميّة عاليا على الرّغم من طغيان النّظام الأمني، الذي نجح في مصادرة القرار السّياسي اللبناني، وفشل في مصادرة الصّحافة الحرّة. إطلالة سمير تلك لم تكن لتمر مرور الكرام لأنّي كنت أجلس حينها في حضرة زوجته الإعلاميّة جيزيل خوري، نجري حواراً لجريدة «الرياض»، كأم حنون كانت جيزيل تتابع سمير، ذلك الصّحافي المناضل الذي أحبّته قبل أكثر من اثنتي عشر عاماً، وكانت قصّة حبّهما من النّوع النّادر الذي يصمد رغم إغراءات الشّهرة والأضواء، ذلك الحب الذي توّج بالزّواج قبل أشهر قليلة ليكون خاتمة زواج سعيدة، انتهت بسرعة لم تكن جيزيل تتوقّعها رغم خوفها على زوجها الحاد الطّباع حين تمسّ مواقفه الوطنيّة أو حين يبلغ التكاذب السّياسي أقصى حدوده، وهو الخبير بفضح أكاذيب السّياسيّين في مقالات يخشاها المسؤولون، ولا يخشاهم. كانت جيزيل حينها تتحدّث بغصّة عن استشهاد الرّئيس الحريري الذي كان حامياً للحرّيات في وجه الأجهزة الأمنيّة التي حاربته بمحاربة مناصريه من الصّحافيين، ومن بينهم الإعلامي الشّهيد سمير قصير، حيث صادرت الأجهزة جواز السّفر عبر تلفيق الحجج ونبش ملفّات قديمة، فقام الرّئيس الشّهيد باستعادة جواز سفر سمير وأقلّه بسيّارته إلى المطار، ولم ينس سمير ولا جيزيل تلك الحادثة، لكنّهما حتماً لم ولن يكونا يوماً من الصّحافيين الذين يشترون بخدمات سياسيّة مجّانيّة، غير أنّه آمن بمسيرة الرّئيس الشّهيد وفجع بموته ولم يكن يعلم أنّه سيتبعه على درب الاستشهاد قريباً. مقابلته مع تلفزيون «المستقبل» كانت تشغل جيزيل، فالانفجارات الأمنيّة كانت تفتك بالأبرياء وممتلكاتهم، وسمير لا يخشى على أمنه الذّاتي، مع أنّه كان طرفاً أساسياً في المعارضة اللبنانيّة، وتحت سطوة الأجهزة السوريّة لم يخش من المناداة بالحريّة والسّيادة والاستقلال، سقف حرّيته كان عالياً، وزوجته المحبّة كانت تطالبه بالتعقّل، بالهدوء والدبلوماسيّة، لكنّ إجابته الحاضرة لها كانت أنّ الدبلوماسيّة لا تنفع دائماً، خصوصاً عندما يحين موعد المواجهة. ارتفع صوت سمير فأخفضت جيزيل صوت التلفزيون قبل أن تخفيه، هي لا تريد أن تسمع أفكار زوجها الجريئة ولا تريد أن تخشى عليه أكثر، فيكفيها ما يعتري كل لبناني من خوف في هذه المرحلة العصيبة من عمر الوطن. قالت لي «سمير يتّهمني بأنّي دبلوماسيّة جداً وأحياناً يحتدم النقاش بيننا، لأنّه يعتبر أنّ ثمّة أمورا في الحياة لا ينفع أن يكون المرء فيها دبلوماسياً، لكنّي أرى الأمور من منظار آخر، فالمرحلة التي نعيشها اليوم ستطول، وعلينا أن نكون أكثر دبلوماسية وهدوءاً ليكون لدينا النفس الطّويل». توقّعت جيزيل يومها أن يعيش لبنان حالة من الانفجار الأمني قبل أن يصل إلى الحريّة، وأن يدفع الثّمن مزيداً من الشّهداء الأحرار، لكنّها لم تكن تتوقّع أن يكون زوجها وحبيبها شهيداً على مذبح الحريّة... رحم الله سمير قصير.