عندما عزم أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرحيل إلى الشام لغرض التجارة تعلق به رسول الله صلى الله عليه وسلم راغباً في صحبته ليتعلم بعض طرق التجارة وأسرارها. ورق له قلب عمه أبي طالب, وقال والله لأخرجن به معي, ولا يفارقني ولا أفارقه أبداً. وهكذا رحل الركب متوجهاً إلى الشام حتى نزل في بصرى وبها راهب يقال له بحيرى. فلما رآه ذلك الراهب في صومعته, أقبل على عمه أبي طالب وسأله: ما هذا منك ؟ فقال ابني. قال له بحيرى: ماهو بابنك, ما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حياً. قال: فإنه ابن أخي, قال فما فعل أبوه ؟ قال: مات وأمه حُبلى, قال: صدقت فارجع بابن أخيك إلى بلده, واحذر عليه يهود, فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليناله شر منهم فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم.. ولقد كان للرحلة التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشام مع عمه أبي طالب أثر كبير في حياته, فقد فتحت ذهنه على أمور كثيرة من أمور الحياة والبيئة التي تحيط به والناس الذين يتعاملون معه, ووجهت نظره إلى كثير من الوسائل التجارية التي أفاد منها, ولعل من أوضحها اشتغاله بعد ذلك بالتجارة في مال السيدة خديجة رضي الله عنها التي اطمأنت إلى أخلاقه العظيمة وإلى صفاته النبيلة وحسن معاملته للناس وأمانته وصدقه حتى لقبه الجميع بالصادق الأمين. وقد ارتاحت نفس السيدة خديجة رضي الله عنها إلى هذا كله, فآثرته على جميع رجال قريش, وطلبت إليه أن يتصرف في تجارتها كيفما يشاء وكيفما يرى في ذلك. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عند حسن ظن السيدة خديجة, فعاد من رحلته الأولى والتي تاجر فيها بأموال السيدة خديجة, وقد أفاء الله عليه بالأرباح الكثيرة. وكان عمله مع السيدة خديجة في التجارة بداية حياة جديدة ومرحلة مفعمة بالخير والبركة والتوفيق والنجاح.. ولا شك أن الأسواق التي كان يغشاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل سوق عكاظ كانت ذات أثر في استفادته (صلى الله عليه وسلم) من تجارب من يكبرونه سناً, كما فتحت أمامه المجال للمناقشة والحوار والمشاركة في إبداء الرأي بين المتخاصمين والقضاء على مسببات الضغينة لحقن الدماء. وكان الرسول صلوات الله وسلامه عليه سعيداً بالإستماع إلى المناظرات التي تدور بين القبائل العربية, بالإضافة إلى سماع المعلقات, ومسابقات الشعر ليفيد منها بعد ذلك معرفة بأحوال العرب وحسن التحدث مع الناس ومناقشتهم في جميع أمورهم الحياتية.. وقد أوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم إن " التاجر الأمين الصدوق, مع النبيين والصديقين الشهداء " كما أخرجه الترمذي. عن أبي سعيد الخدري, كما أمر عليه الصلاة والسلام بعدم الغش في التجارة " من غشنا فليس منا" كما أخرجه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أي الكسب أطيب ؟ قال: عمل الرجل بيده, وكل بيع مبرور", كما أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط عن ابن عمر. وهذا يدل على ذم البطالة, والدعوة إلى العمل سواء للرجل أو المرأة, والبيع المبرور هو التجارة التي فيها كثير من الرزق والتي يتحرى فيها صاحبها وجوه الحلال. لقد كان للأنبياء حرف ومهن شريفة, مثل حرفة نوح عليه السلام في صناعة السفن, وحرفة داود عليه السلام بصناعة الدروع, واشتغال موسى عليه السلام برعى غنم شعيب عليه السلام عشر سنين أجيراً في أرض مدين, لتكون نتيجة عمله مهراً من زواجه بابنة شعيب عليه السلام. وقد عمل الرسول صلى الله عليه وسلم في رعى الغنم في صدر شبابه, ثم عمل بالتجارة في مال السيدة خديجة رضي الله عنها.. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نموذجاً رائعاً لأهمية وقيمة العمل الشريف سواء في رعي الأغنام أو في التجارة التي فيها جزء كبير من الرزق, وقد ذم الإسلام البطالة والكسل, ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوة إلى العمل والإنتاج:" من أمسى كالاً من عمل يده, أمسى مغفوراً له " أخرجه الترمذي.