تجري على ألسنتنا عبارات تحوي كلمات مثل: "قليل" أو كلمة "كثير"، أو مايعبر عنهما مثل: "نادرًا"، أو "حالات فردية"، أو "الكل"، أو "الجميع، أو "الغالبية"، وغيرها من الكلمات التي يراد بها الإشارة إلى الكم. وفي الغالب نقول تلك الكلمات دون الاعتماد على إحصائيات أو أرقام، وإنما نقولها في سياق انطباعي يعتمد على التخمين. ونتساءل عن مدى دقة هذا التخمين وعلاقته بمواقفنا. فهل يمكن استبدال كلمة "قليل" بكلمة أخرى ترفع العدد؟ وبالمثل: هل يمكن استبدال كلمة "الكثير" بكلمة أخرى تقلل من العدد؟ والواقع أن الموقف الشخصي للمتكلم هو الذي يدفعه لاستخدام هذه التعبيرات النسبية لكي تلبي مايريده؛ فمثلا: نجد أن القذافي وكذلك ابنه سيف الإسلام ظلاّ يقولان إن الأكثرية من الليبيين معهم، وأن معهم الملايين، مع أن الواقع خلاف ذلك. إن الشخص حينما يقول ما في ذهنه من أمنيات، ويكرر ذلك، فإنه يتخيل أن مايقوله صحيح؛ وحينما يجد من يعزز لديه هذا التأكيد، فإنه يصدّق ذلك ويشعر بالراحة. ومثل هذا الموقف يتكرر معنا، فتجد الواحد يقول إنه تلقّى اتصالات كثيرة، وقد يضيف إليها وصفًا بأنها "كثيرة جدًا"، تطلب منه كذا وكذا، أو تشيد به، أو تسانده وتؤيده وتقف معه، أو تسترضيه .. إلخ، وحينما نبحث في عدد هذه الكثرة ربما لا نجد أنهم تجاوزوا أصابع اليد الواحدة. وبالمثل، نستخدم وصف "الأقلية" من باب التخفيف من التأثير، فتجد الشخص يقول إن الذين يخالفونه هم قلة، أو الذين اعترضوا عليه ليسوا سوى قلة قليلة. وحتى لو بلغ عددهم المائة، فإنه يصر على أنهم قلة، لأنه في الواقع لا يريد أن ينظر إليهم خارج هذه الدائرة مهما بلغ عددهم. وقد يجد البعض أن السبب في الإصرار على وصف معين في القلة أو الكثرة، أن صاحب هذا الوصف أضاف إليه الصامتين، فمن قال إن "الأكثرية" معي، احتسب أعداد الذين لم يصرحوا بأنهم معه من منطلق أنهم شبيهون بمن صرحوا؛ وكذلك فإن من قال إن الذي ضده هم "أقلية"، حتى لو كانوا بالمئات أو الآلاف، فقد نظر إلى مجموع الناس، واحتسب الصامتين على أنهم معه على أساس أنهم لم يعترضوا. وهذا القياس هو نوع من المغالطات العقلية التي نقع ضحية لها دون أن ندري. وإذا وجدت مع الشخصية العنيدة، فإن تصحيح هذه المغالطات يُصبح ضربًا من المستحيل. إن الشخص المتوازن عقليًا ونفسيًا أقدر على رؤية الأمر بصورة عادلة لايظلم فيها نفسه ولا غيره؛ فإذا وجد شخصًا حتى لو كان واحدًا يخالفه أو يعترض عليه، ووجد أن هذا الاعتراض منطقي وواقعي ويمكن أن يقنع الآخرين، فإنه يعترف به مباشرة ولا يسعه إنكاره حتى لو لم يُعبر عنه عدد كبير من الناس، لأننا في الواقع لم نقم باستفتاء جميع الناس عن الموضوع، ولكننا نستقرىء المنطق الذي يقنع العقول ونقيس عليه. هناك منطق عام يدركه الناس مهما اختلفت ثقافاتهم ولغاتهم ومهما تنوعت مشاربهم وأماكنهم وتباينت أعمارهم، هذا المنطق يحدد الصواب ويحدد الخطأ، ولسنا بحاجة لاستقراء آراء الناس حول صحّة أو خطأ موضوعات خاطئة مثل اعتداء شخص بالغ على طفل صغير، أو السرقة أو الخيانة أو الكذب. وهناك منطق خاص يتعلق بالثقافة وبالشخصية، وهذا المنطق هو محل جدل. وفي هذا النوع من المنطق نجد أن كل شخص يحمل مسوغات تعزز رؤيته، مقابل وجود غيره ممن يحاول نقض فكرته. وهذا النوع من المنطق هو الشائع في الخلافات التي نتجادل حولها، وفيها تدخل فكرة الأكثرية والأقلية. وكلما استطعنا الخروج من الإطار الشخصي لأي موضوع، وتجادلنا حوله بمنطق لا يغفل الثقافة والخلفيات المعرفية، نستطيع أن نصل إلى نقطة نلتقي حولها بالاتفاق حول عناصر معينة في الموضوع وندع العناصر التي لا نتفق عليها جانبًا. ولو تأملنا تلك العناصر المتروكة لوجدنا أنها أقرب إلى الأمور الشخصية التي ترجع إلى الحرية الذاتية لكل شخص أكثر من كونها قضية عامة تهم الناس.