لم تعد الهند غامضة وجذابة كما كانت في الماضي.. فأيام ابن بطوطة وماركو بولو - بل وأيام المهراجات والاستعمار البريطاني - كانت الهند بمثابة أرض الأساطير والخرافات والقصص والمخلوقات العجيبة.. وبسبب بعد المسافة وصعوبة السفر - وعدم وجود انترنت وقنوات فضائية - كان من الصعب تكذيب الخرافات والادعاءات التي يأتي بها أي مسافر من هناك. وبالإضافة للتوابل والبهارات كانت قصص السحرة والنساك جزء من "البضاعة" التي يعود بها أي مغامر سمح له العمر بالعودة من الهند.. فالنوم على المسامير، وأكل الجمر، وتبديل العينين، والارتفاع في الهواء، والعيش لسبع مئة عام، والاختفاء في جذوع الأشجار، والوقوف لسنوات رأسا على عقب، والنوم في قبور مدفونه لعدة أشهر.. مجرد نماذج لأساطير مشتركة وشعوذات مكررة وحكايات شائعة نقلها الرحالة من مختلف الجنسيات!! ورغم كثرة الخرافات التاريخية لم أجد أكثر انتشارا وتكرارا من أسطورة "الصبي وحبل المشعوذ" الهندية (وأعتذر عن تكرارها بالنسبة لمشتركي الجوال).. فهذه الأسطورة تحدث عنها أكثر من 17 رحالة ومغامر من جنسيات مختلفة.. بما فيهم ابن بطوطة وموظفو الحكومة الاستعمارية في الهند.. فحين كان ابن بطوطة في حضرة احد أمراء الهند حضر احد المشعوذين ومعه صبي صغير فقال له الأمير أرنا شيئا من عجائبك، فرمى حبلا في الهواء فاستقام الحبل وامتد حتى جاوز السحاب ثم أمر الصبي بتسلقه.. وبدون تردد نفذ الصبي أوامر المشعوذ وتسلق الحبل حتى غاب عن أبصار الناس.. وحين تأخر في النزول دعاه المشعوذ ثلاث مرات فلم يجبه فأخذ سكينا ضخمة وصعد خلفه حتى غاب هو أيضا عن الأنظار. وبينما الناس ينتظرون نزولهما سقطت بينهم يد الصبي ثم قدمه ثم رأسه ثم قدمه الاخرى حتى اذا اكتملت أعضاء الطفل نزل المشعوذ وسكينه تقطر دما.. ويقول ابن بطوطة بهذا الخصوص (ولاحظ شهادته برؤية الحدث مرتين): "فأصابني خفقان قلب مثل الذي اصابني عند ملك الهند حين رأيت مثل ذلك، فسقوني دواء اذهب عني ما رأيت وكان بجانبي القاضي فخر الدين فقال لي: والله ما كان من صعود ولا نزول ولا قطع عضو إنما كل ذلك شعوذة"!! وقبل ابن بطوطة تحدث عن هذه القصة العجيبة "الحكواتية" العرب في خانات دمشق وبغداد والفسطاط.. ناهيك عن وجودها في ثنايا قصص سندباد وألف ليلة وليلة. وبعد قرون من سردها في المشرق العربي تعرف عليها الرحالة الأوربيون ونقلها الإنجليز للثقافات الغربية أيام استعمارهم للهند (ومازالت تعرف حتى اليوم باسمIndian Rope Trick). ورغم وجود فرضيات كثيرة حاولت تفسير هذه الخدعة، إلا أن معظم الرحالة اتفقوا - كما قال القاضي الهندي فخر الدين - على أنها مجرد شعوذة تعتمد على الهلوسة الجماعية والتنويم الجماعي وسحر أعين الناس.. وهي بهذا المعنى لا تختلف عن قصة "عُصي السحرة" وتحولها إلى أفاعٍ وثعابين أرعبت موسى وقوم فرعون.. أقر القرآن بحدوثها كواقعة ولكنه قال عنها {يُخيّل إليه من سحرهم أنها تسعى!! على أي حال، سهولة السفر الى الهند هذه الأيام - وتحول العالم الى قرية صغيرة يمكن مشاهدتها عبر الانترنت وقنوات التلفزيون - جعل النوم على المسامير، وأكل الجمر، وخلع العينين، والارتفاع في الهواء، جزءا من خزعبلات الماضي وأساطير التاريخ. ورغم أن الهند لم تعد - كما كانت في الماضي - أرض الأساطير والقصص العجيبة، إلا أنها تملك اليوم صواريخ نووية وصناعة برمجية وعدالة ديموقراطية يصعب على "حكواتية" بني يعرب مجاراتها..