علينا أن نعترف أولاً بوجود الأزمة، ومن ثم محاولة علاجها، إن أردنا فعلا المشاركة في الحضارة الكونية والمساهمة في بنائها. نعم علينا أن نراجع قصورنا قبل اتهام الغير، وبدون الارتهان لهذا الطرح المنطقي، سنظل ندور في الدائرة ذاتها، والأزمات تتوالد، وما من حيلة لنا حينها سوى الدوران! إذا كانت الثقافة في وقتنا الراهن فقدت بعدي الزمان والمكان، وأصبحت العلاقة مع الآخر عبر أسلوب المثاقفة (أي بمعنى التأثير والتأثر). فكيف للعرب أن يسهموا في حضارة العصر وفهم لغته؟ على أن البعد العالمي الراهن ما فتئ يرسم تضاريس ملامح إنسان عصره، مؤثراً في ثقافته وسلوكه، وكأن هذا التأثير تشكل على هيئة خطاب تسييد، فهدم المسلمات وأسقط هيمنة المعهود والمألوف، وتسلط المرجعية، محفزاً على الاستقلال والتجديد. وهنا تتضح إجابة التساؤل الفائت، ما يقتضي منا الاندماج في تيار التقدم العلمي، محاولين إعمال العقل والإيمان بالعمل هدفاً وقيمة، لنكون مشاركين في حضارة عالمية مشتركة، وبغير ذلك نكون خارج التاريخ. على أن تحولات الربيع العربي تقودنا شئنا أم أبينا إلى المواجهة والمصارحة، وهي بمثابة تشريح للحالة العربية الراهنة، ورغم أن زخمها يدفع الجميع باتجاه التعاطي معها، إلا أن المثير للدهشة أنها كشفت لنا أننا كعرب لازلنا نعيش في دوامة الصراع حول قضايا الحداثة وإشكالية الدولة المدنية والدينية فضلا عن الموقف من التراث وعلاقتنا ب (الآخر)، كما شاهدنا في مصر وتونس ما بعد الثورة، فما انفك فضاؤهما الفكري أن عج بالأيديولوجيات المتناحرة والتيارات المتعددة وفكرة القطيع، ليتبلور صراع يفضح إلى أي مدى تدهورت فيه الثقافة السياسية العربية، ويكشف حقيقة الأزمة التي لحقت بالعقل العربي. لقد اتضحت صورة الوضع الحالي في حالات التأزم والتخوين والتشدد في المطالب والنزول للشارع وصعوبة تقبل الآراء المخالفة، ومن المألوف أن ترى تلك الجموع تخرج عن النص تارة، وتغرد عن السرب تارة أخرى، فالوضع استثنائي والظرف حرج وبالتالي يستحق الموقف أن تُعطى تلك التجربة وقتا أطول لكي تنضج، ونتفهم طبيعة السلوك الإنساني الذي يشعر بلذة الحرية بعد سنوات من القمع والكبت السياسي فالانتظار والصبر هو أحوج ما تكون إليه تلك الشعوب، ولعل تحملها لإفرازات التجربة واستيعابها لكل تلك التداعيات على اختلاف تجلياتها هو السبيل والوحيد لها للخروج من ذلك النفق المجهول. وان كانت التجربة كشفت ضعف الثقافة السياسية وقلة الوعي لدى عدد كبير من الشرائح، إلا أن التغاضي الاندفاعات والتجاوزات، بات ضرورة لضمان قطف ثمار الثورة التي جاءت عبر ضريبة باهظة من دماء الشهداء والجرحى. فالتجربة جديرة بالتأمل والتفكير العميق، وان كان التشاؤم لدى البعض حول إمكانية نجاح مرحلة ما بعد الثورة له ما يبرره كونه يأتي بعد سلسلة من إخفاقات التجارب السياسية التي عاشها العرب منذ أن استقلت دولهم في أواسط القرن العشرين. وحين نمضي إلى المزيد من المكاشفة، فإننا نقول لا غرابة في أن تنتشر ثقافة الاستهلاك، وتتلاشى الكتابة النقدية المبدعة، مادام أن هنالك قوى في عالمنا العربي لطالما قمعت الفكر الحر وحاربت تحكيم العقل، فما لبثت أن كبحت أفواه المفكرين ومشاريعهم التنويرية. ولسنا في حاجة إلى التذكير عما أصاب الجسد العربي من انقسامات واحباطات، وإن كان اشد ما يعانيه هو في آلية تفكيره، فعقليته تنفرد في نموذجها كونها تتمسك بكل ما عرفته وما اعتادت أن تعرفه في ظل الظروف التي عاشتها، وبالتالي من الصعوبة بمكان، أن تأخذ في الاعتبار المتغيرات التي تدور في محيطها، لأن هذه المتغيرات، من وجهة نظر هذه العقلية ، تمثل شيئا جديدا، والجديد غالباً يمحو القديم، أو قل أن بريق الجديد يطغى على ثبات القديم في غالب الأحوال، ولذا فهي تطالب بالقطيعة مع الغرب وترفض التحديث وتخشى الجديد، بل ويصل بها الأمر أحيانا إلى إلغاء دور العقل وإعماله، والاكتفاء بما تحمله من قناعات ومعتقدات توارثتها أبا عن جد، دون محاولة التحليل والتأويل في أمور تتطلب نوعاً من التجديد وبما يتلاءم وظرفية العصر. وبعيداً عن الحماسة الأيديولوجية أو العاطفة القومية، نجد أن التقويم الموضوعي للوضع الراهن الآن يشير إلى أن العولمة رغم مساوئها، تساهم في تجسير الفجوة ما بين شعوب العالم، بينما يصر خطاب البعض على أن (الأجنبي) هو السبب الرئيسي في إخفاقاتنا، وان فشلنا وضعفنا من تدبير (المتآمرين) وعلى أي حال، هذه ليست الأزمة الوحيدة، فالأزمات التي تحوم العقلية العربية في فضائها جمّة، إلا أن البارز فيها إلى جانب مفهوم المؤامرة، هو بلا شك عدم الاهتمام بالقراءة والمعرفة. على أي حال، في الثقافات المتعددة، تجد أن منحى السلوك الإنساني المنتج لهذه الثقافة أو تلك واضح ومؤثر وبالتالي حين التأمل في طبيعة هذا السلوك وبالتالي في إفرازات هذه الثقافة المنتجة، فإنه يمكن تحليل عقلية هذا الإنسان ومستوى وعيه وإدراكه. ولذا على سبيل المثال عند وصف حال الثقافة العربية، تجدها أنها مغرمة بالتطلع إلى الماضي أكثر من المستقبل، وذلك من خلال إحصاءات ومقارنات للكتب والمؤلفات، ما جعل احدهم يصفها بالثقافة بالميتة، في حين أن الثقافة الحية تتجلى في المستقبل وتشغل نفسها بالغد أكثر من الماضي. هذا لا يعني أن يقتصر تفكيرنا على القادم من الأيام وتجاهل الماضي، بل التمسك بالأسس، وتجديد الموروث بما يكيّف له التزاوج مع روح ولغة العصر، والاشتغال معظم الوقت للتحديات المقبلة، أما الخطأ الذي يرتكبه البعض فهو يأتي من ذلك الاستغراق في النستالوجية والتمسك بالماضي، مع أن العصر في تسارع وتفاعل ما يستدعي وقفة جادة للتهيؤ لما يأتيك مستقبلا، وليس الركون إلى الماضي فقط رغم أهميته. صفوة القول، نقول إن هؤلاء المتوجسين، قد نجد لهم العذر نسبياً في هذا المآل لاختلاف الرؤية والخلفية الثقافية، إلا أنه من المفترض أن يتعاملوا معها حسب إمكاناتهم ومحاولة الإنتاج بدل الاستهلاك، فالقبول أو الرفض ليس القضية، بقدر ما أن المهم يكمن في فهمها وبالتالي تحديد موقف منها بشكل موضوعي. علينا أن نعترف أولاً بوجود الأزمة، ومن ثم محاولة علاجها، إن أردنا فعلا المشاركة في الحضارة الكونية والمساهمة في بنائها. نعم علينا أن نراجع قصورنا قبل اتهام الغير، وبدون الارتهان لهذا الطرح المنطقي، سنظل ندور في الدائرة ذاتها، والأزمات تتوالد، وما من حيلة لنا حينها سوى الدوران!