للوهلة الأولى يمكن النظر لمسلسل "ميلدرد بيرس-Mildred Pierce" على أنه حكاية كفاح سيدة أمريكية مطلقة خلال سنوات الكساد الكبير الذي اجتاح أمريكا مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، لكن مزيداً من التأمل سيكشف عن دراما إنسانية مؤثرة تحكي معاناة هذه السيدة في الموازنة بين نجاحها المهني الباهر وبين إخفاقها في التواصل مع ابنتها الكبيرة. المسلسل الذي لعبت بطولته الممثلة البريطانية كيت وينسلت بشخصية "ميلدرد"؛ عرضته شبكة HBO التلفزيونية الأمريكية منتصف العام الجاري على مدى أسبوعين من 27 مارس إلى 10 أبريل وبواقع خمس حلقات فقط، وهو مقتبس عن رواية تحمل نفس الاسم للكاتب جيمس كين نشرت عام 1941، في ثاني اقتباس لها بعد الفيلم الذي ظهر عام 1945 وحازت عنه بطلته جوان كراوفورد على أوسكار أفضل ممثلة. علاقة الأم بطفلتها كانت عماد المسلسل المقارنة بين المسلسل التلفزيوني الجديد وبين الفيلم الكلاسيكي تذهب دائماً لصالح المسلسل، حيث اعتبر أكثر إخلاصاً للرواية وأكثر تركيزاً على معانيها الأصلية وتحديداً على العلاقة المضطربة بين الأم والابنة التي تشكل الأساس الذي تقوم عليه الحكاية والتي تبدو من الغرابة بحيث لا يمكن تفسيرها حتى من قبل الأم التي لا تفهم لماذا تتعامل معها ابنتها بهذه الطريقة رغم كل ما بذلته من أجل أن توفر لها مستوى معيشة أفضل. أولى إشارات التوتر في هذه العلاقة تظهر في اللحظات الأولى حين اكتشفت الطفلة "فيدا" أن أمها التي تطلّقت للتو قد بدأت العمل "نادلةً" في أحد المطاعم, وهذا أمر معيب بالنسبة لطفلة تزهو بكبريائها وترى أن مستواها أكبر من الضاحية التي تعيش فيها، ولكي تحافظ الأم على اعتزاز ابنتها تدعي أن عملها في المطعم ليس إلا خطوة نحو بناء مشروعها الخاص والمتمثل في سلسلة مطاعم من نوع خاص، وهكذا يكون النجاح الذي ستحققه السيدة "ميلدرد" ما هو إلا نتيجة لمحاولتها إرضاء طفلتها، وكل ما ستقوم به لاحقاً، بل حتى علاقاتها العاطفية، ستكون متأثرة بمدى قربها أو بعدها عن ابنتها "فيدا". على هذا تكون علاقة الأم والابنة هي العامل المحرك لكل الأحداث، وقد أجاد المسلسل عرضها بنفسٍ روائي ملحمي يمتد منذ طفولة الابنة وحتى استقلالها عن والدتها واحترافها للغناء بعد أن اكتشفت أنها تملك صوتاً عظيماً. وعند هذا الاكتشاف يبدأ المسلسل بارتداء ثوب جمالي ساحر قوامه الأغاني الأوبرالية الرائعة التي تصدح بها الابنة في حفلاتها، والتي تجلى جمالها الفني الخالص في مشهد المذياع حين اكتشفت الأم أن ابنتها تحمل موهبة عظيمة؛ حيث لم تملك أمام الإعجاز الذي تسمعه عبر المذياع إلا البكاء تأثراً بهذه العبقرية التي انبثقت على نحو مفاجئ. هذا وسجّلت الممثلة المتميزة كيت وينسلت براعة لافتة في تجسيد شخصية الأم بكل تقلباتها العاطفية والنفسية، وشاركتها في ذلك الممثلة الشابة إيفان ريتشيل وود بشخصية الابنة "فيدا"، أما بقية الشخصيات فكانت ذات مسار واحد وثابت بحيث يمكن اعتبارها شخصيات محايدة تماماً أمام الشخصيتين المحوريتين؛ الأم والابنة، بما في ذلك شخصية العاشق العابث "مونتي" التي أداها الممثل غاي بيرس وشخصية الصديقة "لوسي" التي أدتها الممثلة ميليسا ليو. يذكر أن المسلسل هو البطولة التلفزيونية الأولى لكيت وينسلت، والتي وصفت دورها فيه بأنه من أصعب الأدوار التي قامت بها منذ دورها في فيلم "تايتانيك" عام 1997؛ وبغض النظر عن دقة هذا الوصف، خاصة إذا تذكرنا أدوارها الرائعة في الأفلام "الطريق الثوري"، "إشراقة أبدية لعقل عظيم" و"أولاد صغار", يبقى حضورها المميز في هذه التجربة التلفزيونية الغنية أحد أهم عوامل الجمال التي اتكأ عليها المسلسل.