يصل سعر البيت في قرية بانغبورن الإنكليزية (تبعد عن لندن ساعة بالقطار) الى مليون جنيه إسترليني، أي ما يعادل المليون ونصف المليون دولار. ذلك لأنها تعتبر من الأمكنة المميزة للسكن بسبب موقعها الى جوار نهر يقع في قلب الريف الإنكليزي العفوي والساحر. رغم ذلك فقد ذكرت صحيفة الغارديان البريطانية قبل عدة أيام، أن دي أتش لورنس الكاتب الإنكليزي الشهير كتب رسالة الى صديقه الكاتب المسرحي هربرت فارغيون يشتكي فيها من الإقامة في بانغبورن بسبب كثرة الروائح فيها، وكانت حجته ان النساء في القرية يضعن على أجسادهن الكثير من العطور «فهناك رائحة البنزين وحجارة الرصيف وكذلك رائحة النساء» قائلا له أن العزاء الوحيد له هو «في الحديقة حيث يجد المرء الطمأنينة». وذكرت الغارديان أن وجهة النظر السلبية التي قدمها لورنس الذي توفي بداء الرئة، أثارت غضب أهالي القرية الوديعة الآمنة حيث صرحت واحدة من النساء أنها تشعر بالرعب من تصريح لورنس مؤكدة أن أهل القرية «قوم يحبون العطور». لورنس الذي أقام في بانغبورن في منتصف العقد الثاني من القرن العشرين، كان وقتها متهما بالتجسس لصالح الألمان، وقد أقام وزوجته فريدا في عدد من البيوت بعد أن تم طردهما من مدينتهما كور نوول. ووصلت حالته قبل الموت بقليل الى إبتعاده عن البشر وعدم تحبيذ الاختلاط الإجتماعي، وفي نفس الرسالة التي بيعت في مارس (آذار) الماضي يقول لصديقه «أنا لا أتحمل الاختلاط بالبشر... إني مشمئز جدا من الجنس البشري». تختلف الروائح التي يحدثنا عنها لورنس عن الروائح التي يحدثنا عنها الألماني باتريك زوسكيند في روايته الفائقة الشهرة «العطر - قصة قاتل». إذ هو في البداية يجعل من القاريء يتنقل معه في احياء العاصمة الفرنسية باريس في منتصف القرن التاسع عشر، روائح منتشرة في كل مكان، روائح كريهة، عفنة، تعطب الأنوف التي تتنشقها في الذهاب والإياب. في المكان الذي تبدأ فيه الرواية، تعبق رائحة السمك المنتن بسبب تمدده على الطاولات لساعات تحت الشمس. وفي قلب هذا المشهد امرأة تبيع السمك تلد جنينها وهي جالسة على كرسي، تقطع حبل الخلاص بسكينها التي تنظف فيه السمك، تلد ولادة قذرة، في مكان يمتلئ بروائح كريهة ونتنة. دون أن تدري أنها ولدت طفلا لم يكتب له الموت بقدر ما كتب له القدر المصير الآخر. أن ينزع هو أرواح الآخرين ليستخرج منها عطوراً آدمية. والحق ان لكل مدينة روائحها التي تميزها عن المدن الاخرى، ففي حين أن باريس زوسكيند كانت مدينة العطر بكافة أنواعه، فإن مدينة مثل القدس تعبق بها منذ سنوات طويلة روائح البارود، بينما تعبق في دمشق رائحة التاريخ الأموي العتيد. أما ما تبقى من مدن متوسطية فالروائح ليست لها لأنها تقع على مجار قوية للرياح التي لا تبقي أثراً لعطر.