في العام 1997، أجرى الصديق والشاعر والسينمائي برهان شاوي حواراً صحافياً معي. كنت آنذاك قد أنجزتُ فيلماً قصيراً، وآخر وثائقياً في ظروفٍ أشبه ما تكون بالمستحيلة. غياب شامل، ويباس سينمائي كبير نَعيشه في الإمارات، بل ومنطقة الخليج بأسرِها. لن نخوض في الأسباب لأن فحوى الحوار ارتكز بشكلٍ أساسيٍّ على ذلك: العوائق، والأسباب، والتساؤلات الشّرعية التي تَبدو بديهية جداً: لماذا لا تُوجد صناعة سينمائية في المنطقة على الرّغم من توفر رأس المال - العائقُ الرئيس أمام مُبدعين كُثر في العالم؟. كانت إجابتي فورية وعفوية: «الضرب في الميت حرام!». أن تَقول لماذا لا يَنبت التفاح في الإمارات، مثلاً! هناك أسباب بالتأكيد، ولكن لم أكُن مهيئاً تماماً لسردِها، بدءاً من التربة، إلى الطقس، مروراً بالشمس، وانتهاءً بالأوكسجين، وما بينهم الكثير. هنا لا أعني بالدرجة الأولى إنبات تفاح، ولكن من دون شك، خلق حالة سينمائية، ولتكن أوّلية وبِدئية. هذه الحالة كانت مستحيلة في وقتٍ كان العالم يَحتفي فيه بمئوية ولادة السينما، أو أكثر بقليل. ما كان يَنقص حقيقةً هو البيئة التي تشمل كل هذه العناصر، بيئة جاذبة، هادئة، متفهّمة، صَبورة، والأهم مُؤمنة بالثقافة، ولغة الصورة، ولديها من الشَّغَف السينمائي.. الشيءُ الكثير. ما إن توفّرت هذه البيئة في العام 2001، إلا وبدأت «الكوادر» تَتوالى خَجلى، عرجاء، في انسياب عبثي، فرديّ، وحماسي. عندها كانت الفرحةُ عارمة، كيف ستَبدو صورتنا على الشاشة؟ غريبٌ أن نجلس في صالة سينما، ونرى أنفُسَنا ساقطين على البياض في صورةٍ جديدةٍ لم نَألفها كثيراً. صورةٌ تَشبهُنا كثيراً كثيراً. صُورتنا السينمائية صَنعها غيرَنا لَنَا، دائماً: نحن إما بدوٌ أغبياء، أو أثرياء نَعُومُ في براميلِ النفط، أو هي صُورة طازجة جديدة، وبالأحرى موضة قديمة: إرهابيون. يومها كتبتُ أن «هذه التجربة... لا تَفرِضُ مسلّماتٍ فعليّةً لوجودِ سينما في الإمارات. هي محاولةٌ فقط لاختراقِ كتلةِ البلادة والجمود التي تحيطُ بمشروعٍ ثقافيٍّ مهم أُهمل –وما يزال- قصداً، أو بغير. تجاربُ محترفين، وهواةٌ، وطُلاب، تجتمع لتؤثِّر، لا لتُعرضَ لنفرٍ قليل، وكفى. تُعرضُ لتُنبِّهَ، لتُلفتَ أنظاراً، لا لتُصبح مادّةً أو سلعةً إعلانيّة. تُعرضُ، لتَقولَ بصراحةٍ تامّةٍ: نحنُ لم نَمُتْ. وإن كانتْ بعضُ هذه التجاربِ مشوّشةً أو مضطّربةً تقنياً: بصرياًّ أو صوتياًّ؛ فهي جاءتْ بنفسِها لتقولَ ذلك علانيةً: نعم إنها كذلك، فقيرةٌ وبائسةٌ.» هذا البؤس الذي لم يتفهمه الكثير، أصبح أيضاً مصدراً جديداً لسلسلةِ المغالطات حول صُورتنا: لماذا تُقام مهرجانات سينمائية في دول غير مُنتجة للسينما؟ أو، لماذا يتم تشجيع هوّاة، وأفلام فيديو، وتجميعها تحت إطارٍ وهميِّ باسم «مهرجان»؟. شخصياً، لم تَكن تَعنيني التسميات، أو المسمّيات، أو الأُطر حينها. ما كان يُهمني هو التوريط، الجذب، الاستقطاب، إبقاء الجذوة مُشتعلة حتى لا يَخنُقنا الدخان إن إنطفأت. وعلى الرغم من الانتقادات الحادّة، كنتُ أعلم داخلياً أن مرحلة الفَرز لاحقة، وأن لابدّ لنا أن نُغيّر هذه الصورة السلبية الساكنة في مرآةِ الآخر. الرهان لم يَكن على صناعةٍ سينمائية، كان بسيطاً جداً: على مُبدعين أفراد، وعلى صُورة أنقى لَنَا، وعلى تَجمّعٍ يتحدّث فيه الجميع لُغتهم الأم: السينما، وعلى نسائِم باردة تُثلج رئاتنا الجافّة. وبالمقابل، على مُشاهدة صورة الآخر، وتَفهّمه لتحديث فكرتنا عنه، ولإلزالة المغالطات، إن وُجدت. وباختصار وبساطةٍ شديدين: البيئة. اليوم، بعد مرور عشر سنواتٍ من تلك الكتابة؛ وذلك البؤس. وبعد مرور أربعة عشر سنة، من ذلك الحوار. هل أستطيع أن أُجيب على تساؤلات الجميل برهان شاوي بذات الإجابة!. اليوم، أتساءل: هل الضرب حلال؟ أم الميت شفى؟. لا أعرفُ حقيقةً، ولكن ما أُدركه يقيناً، أن العشر سنوات الفائتة في منطقةِ الخليج، فيها من السينما.. الشيءُ الكثير!. * مدير مهرجان الخليج السينمائي والمدير الفني لمهرجان دبي السينمائي