يعيش المسلمون هذه الأيام مشاعر روحانية، وأجواء ايجابية في هذا الشهر الفضيل الذي يوشك على نهايته، يعيشون العشر الأواخر من رمضان، شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار، الذي يتسارع فيه الجميع إلى التقرب من الله عز وجل، ومحاولة فتح حساباتهم السابقة من الخطايا لإغلاقها من خلال ليالي هذا الشهر الكريم وتكثيف العبادات فيه. تسعد وأنت ترى هذه الجموع ومئات الملايين من المسلمين في أنحاء الأرض يؤدون التراويح والقيام، ويسكبون الدموع عند الدعاء من خشية الله والخوف من عقابه، وأحياناً تنهمر بإحساس أن الله سبحانه وتعالى قد منح عبده فرصة التكفير عن ذنوبه، وأعاده مرة أخرى على هذا الشهر طيباً، متعافياً ليشهد فضائله ويغنم منها، ويظفر بخيراتها. يتوارى الكثيرون في شهر رمضان، ويختبئون في زوايا التعبد، بل وقد يشعر البعض بالخجل والذوبان في تفاصيله أمام عزته وجلاله للتقصير طوال العام. ولملامسة بعض الأخطاء والوقوع فيها كديدن البشر الخطائين، فيبكون على اعتبار ان ما كان خطأ ومعصية لن يعودوا إليها، ومسرح الرد سيبدأ الاستعداد له من رمضان الكريم. يعاهد أحدهم نفسه، ويذرف الدموع، ويُطلق الأمل على عدم العودة إلى ما كان عليه قبل رمضان. بل وقد تختلط لديه الأوراق فيزداد الخوف داخله. ويتكثف الرعب من عودة تلك الأشهر. الأمر يتحول لديه لا يقبل أي اجتهادات، أو تفكير في العودة إلى ما مضى، فشهر المغفرة حسم إما الجدل داخله الذي كان يقاتل من أجل ايقافه، أو فجر داخله أيضاً لحظة صادقة بترك معاصيه حتى ولو كانت صغيرة وغير مؤثرة. الآن هو يشعر انه يقيم في الضفة الأخرى، ضفة شهر رمضان، يبكي كثيراً لأن الشهر يوشك على المغادرة، يبكي لأنه يشعر أن شهر الحماية يتسحب إلى الخلف وأن أيامه انتهى عمرها الافتراضي. ثمة ما هو مشترك بين هذه الأيام، وبين دواخله، ثمة ما هو مشترك تم منحه من خلالها، القدرة على الصمود الذي كان يعتقد انه بعيد المنال، ثمة ما هو ولّد داخله من مشاعر ايجابية طاردة لكل ما كان قبل رمضان، أحاسيس صادقة بالتوبة لا تختلط فيها المخاوف، أحاسيس تشعره بأنه في شهر الملاذ الآمن، سيواصل التمسك بها وسيرفض الاطاحة بما يشعر به عقب الشهر الفضيل. لن يقتنع أن هذه المشاعر محددة الإقامة بشهر رمضان، أو أنها سهم طائش أصابه وسيشفى منه عقب الشهر الكريم. ولن يسمح بمغادرتها، بل هو من سيقيم داخل هذه الايجابيات. لن يكون له جسر يعبر عليه سوى جسر التوبة الدائم الذي اكتشفه في رمضان وسيعتبر كل الجسور الأخرى محظورة. والشهر يمضي إلى رمقه الأخير وهو يواصل العلاج من خلال هذا الذوبان الصادق في عباداته مكرراً طلب الصفح والغفران من رب العباد، لا يتوقف أحياناً عن التفكير في قسوة تلك الأيام القادمة وجاذبيتها التي تعمّر معه طوال احد عشر شهراً وتعيده كغيره ممن يتجاوزون رمضان تائبين، ويعودون مرة أخرى إلى الأيام الخوالي بكل سلبياتها، وبكل ممارساتها، وكأن التوبة وأبوابها العبادات والمغفرة مقتصرة على رمضان فقط. يعودون لكل شيء بل، ويختارون الضفة الموازية لرمضان على اعتبار انها الثابتة دون أن ينتابهم أي احساس بالخجل مما عادوا إليه من فساد وكذب ومحرّمات، وعودة إلى المناطق المحظورة. هم يشعرون أن رمضان القادم سيأتي ان أعادهم الله عليه بخير وقد يعاودون الولادة داخله تائبين، ويدوّرون زوايا الأيام كما يريدون. دون الاعتقاد، أو حتى التفكير للحظة أن الإنسان لا يملك مصيره، أو عمره، أو اختيار لحظة ولادته، أو موته، وان الله سبحانه وتعالى، من فضله، وكرمه، منحنا الكثير من الغنائم ومنحنا الكثير من العطايا ومنها هذا الشهر الكريم الذي نتمنى أن يكون جسراً ثابتاً إلى التجرد من الذنوب والخطايا، ونبقى عليه لا نغيره مهما اختلفت الأشهر والأيام!!