في شهر رمضان يكثر الناس من قراءة وتدبر القرآن، و تستوقف العبد تلك الآيات التي تهز المشاعر و تحاكي العقل وتقشعر لها الأبدان. ومن هذه الآيات العظيمة قوله تعالى ( و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني اعلم مالا تعلمون)وقوله تبارك وتعالى (وعد الله الذين امنوا ليستخلفنهم كما استخلف الذين من قبلهم ) و من أوجه الاستخلاف أن يحيي الإنسان الأرض و يبنيها ويعمرها على الوجه الذي يرضي الله تعالى قال سبحانه (وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) فكما أن عمران الأرض يكون بالذكر والشكر وحسن العبادة فإن العمران الحسي من حسن البناء وإتقان تخطيط المدينة من حيث التوزيع العادل للخدمات والاهتمام بشبكات البنية الأساسية للمدينة يساهم بشكل أساسي لاستقامة حياة الناس تعبداً و عملاً قال عز من قائل (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله و اليوم الآخر) فكيف تقوم العبادة من دون البناء الجيد؟ إن عمران الأرض و إحياءها مسؤولية عظيمة على عاتق الأمة الإسلامية قال تبارك وتعالى(قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ) ولو نظرنا إلى حال المدينة الإسلامية العصرية فإن العمران الحديث لا يأخذ بعين الاعتبار تلك المسؤولية أمام الله في عمارة الأرض. فأبعاد الإهمال بالمسؤولية الربانية تجاه إحياء الأرض كثيرة ومتعددة ولعل من أوضحها رمي النفايات ودفنها في الأرض . و هذه المشكلة تبدأ من طالب المدرسة إلى صاحب المصنع فكلاهما يرمي نفاياته إما في الشارع أو في الأودية والأراضي الفضاء أو حتى بدفنها في باطن الأرض وهذا ولا شك يخالف قول الرسول صلى الله عليه وسلم في إماطة الأذى عن الطريق . بل إن المشكلة تتفاقم لتصبح أذى على البيئة والمجتمع ومنبعاً للأمراض والتلوث عن طريق دفن النفايات في باطن الأرض متناسين قوله صلى عليه وسلم ( لا ضرر ولا ضرار).ولعل توزيع الاستعمالات في المدينة(مناطق سكنية،تجارية،تعليمية،صحية ودينية) من أبعاد هذا الإهمال أيضاً. فالمدينة الإسلامية في الماضي أدركت مسؤوليتها أمام الله بحيث هيئت ووزعت استعمالات المدينة المتنوعة لتشكل نسيجاً عمرانياً يوزع الخدمات والمرافق في المدينة بعدالة و من دون خلق مشاكل في الحركة المرورية . لكن قد يقول قائل إن هذا قياس باطل بين مدننا الحالية و الماضية لان وسائل النقل تغيرت و حاجات الناس كذلك تغيرت . و برأيي أننا بهذا المنطلق نصمم مدننا للسيارة -وسيلة النقل- أي نحن الذين خلقنا التكنولوجيا و التكنولوجيا خلقت حياتنا. فالمدينةالغربية الحديثة -على الرغم إنني غير متفق مع كل ما تقدمه من حلول عمرانية-إلا أنها عالجت التكنولوجيا بتكنولوجيا بحيث خلقت وسائل لتدوير النفايات وأنظمة لحل الاختناقات المرورية. وأيضاً المدينةالغربية أوجدت نظاما للتكافل الاجتماعي من خلال النظام الاجتماعي والذي يقوم على إيجاد سكن لذوي الدخل المحدود وتوزيعها على كافة أرجاء المدينة بحيث يتوزع سكان ذوي الدخل المحدود على كافة الأحياء بدلا من تمركزهم في حي واحد . والعمارة الغربية أخذت تصحو من غياهب عصر الصناعة إذ إنها فرضت على المصانع نظاما بيئيا صارماً للحد من التلوث ولا ندري متى تطبق مثل هذه الأنظمة في مدننا الإسلامية؟ بل إن العمارة الغربية اقتبست من تجارب الماضي حلولا عصرية فعالة لعمارة الأرض حيث انتشرت في العقد الأخير فكرة العمارة الخضراء وهي تقوم على كساء المباني بالنباتات بحث تشكل النباتات عازلاً حرارياً طبيعيا. ومن قيم العمارة الخضراء أنها تقلل من التلوث البيئي من خلال ترشيد استهلاك الطاقة في المباني وهذا يتفق مع قوله تعالى(ولا تبذروا تبذيرا) والمدن الإسلامية في وقتنا الحاضر للتبذير فقط في الموارد بل إنها تسيء استغلال الموارد الطبيعية من حيث إهمال المصادر الطبيعة لطاقة الشمسية والرياح. فمن المعلوم أن بلدنا من أكثر البلدان حرارة وتعرضاً لشمس وعلى الرغم من ذلك فإن استغلال هذا المورد الطبيعي يتم في أضيق الحدود قال تعالى( امن جعل الأرض قراراً وجعل خلالها انهراً وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزاً)فالله تبارك وتعالى أمد بني ادم بأنواع النعم ليتسنى لهم إحياء الأرض وعمرانها وهذه الموارد تعد لاعباً رئيسياً في أحياء الأرض في الإسلام ولابد من استغلالها. والتاريخ الإسلامي يزخر بأمثلة على حسن استغلال الموارد الطبيعة من سدود و قناطر وغيرها و التي تؤكد على أن المدينة الإسلامية تزدهر باستغلال الموارد الطبيعية. أن جزءاً كبيراً من إحياء الأرض في الإسلام يدخل في منظومة الحرث والنسل وتعد هذه المنظومة المدخل الاقتصادي لإحياء المدن في الإسلام. فالقرآن أكد في أكثر من موضع على ضرورة العمل في ما رزق الله عباده من الطيبات والنعم (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور) وقال سبحانه ( اعملوا آل داوود شكرًا ) فكما أن العمل بالشكر يكون بطاعة الله فهو أيضا يكون ضمن العمل فيما ما رزق الله عباده من الطيبات قال تعالى (ولان شكرتم لأزيدنكم ) فزيادة النعم تتم بالعمل الصالح من عباده وسعي دنيوي. وأيضا من نعم المولى عز وجل انه حبا كل بقعة في الأرض بمصدر رزق أما طبيعي كالنفط والغاز وغيرهما أو بمصدر بشري كحرفة أو صناعة وقد تكون مدينة تجتمع فيها المورد واليد العاملة وهذا ولا شك يساهم بشكل رئيسي في ازدهار المدينة أينما كانت. وإذا نظرنا لمدن المملكة فإن الهوية الاقتصادية لمدنها تحتاج إلى تعزيز وتنشيط. فعلى الرغم من وجود الصناعة والمورد الطبيعي(النفط) إلا أن اقتصاد المناطق داخل المدن السعودية لا ينمو بشكل يتناسب مع حجم الموارد المتاحة . فمدينة الرياض على سبيل المثال توجد بها مناطق صناعية في جنوبالمدينة ، وبرأيي أن هناك فرصة قوية لازدهار هذي المنطقة إذا زودت بشبكات البنية الأساسية بشكل كامل وتيسير كافة المرافق التي يحتاجها المستثمر الصناعي. إذا تم ذلك فإن اقتصاد جنوبالرياض سيزدهر وينمو ليصبح لاعباً رئيسياً في نمو الرياض. حاليا و حسب إحصائيات الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض فإن 22٪من القوى العمالة تعمل في جنوبالرياض ( على الأغلب في المناطق الصناعية) ولكن كم نسبة السعوديين نسبة 22٪ هذه و أيضاً كم نسبة سكان جنوبالرياض الذين يعملون في الجنوب؟ على الأرجح أن نسبة كبيرة من سكان جنوبالرياض يعملون في شمال ووسط الرياض ولا يساهمون في نمو القطاع الجنوبي في المدينة وهذا مؤشر أن فرص العمل ذات الدخل المرضي تكون في شمال المدينة وعليه فإن المستثمرين يتمركزون في تلك المناطق والنتيجة الاهتمام يكون في الشمال لمد الشبكات و البنى الأساسية وترك الجنوب للمصانع والتلوث والعمالة تماماً كشرق لندن إبان الثورة الصناعية. و الحل أن الأمانة والهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض تطور جنوبالمدينة لتكون واحة صناعية خالية من التلوث حسنة الصورة العمرانية و الغرب والشرق الأقصى لديه تجارب عدة في تحويل تلك المناطق إلى نقاط جذب سكانية واقتصادية. إن القارئ للقرآن الكريم و ناظر إلى تاريخنا وواقعنا ليمس فجوة في إحياء مدننا الحاضرة فلابد من الرجوع إلى أصالة الماضي لاقتباس حلول مستدامة تحي مدننا الإسلامية مع النظر إلى التجارب المعاصرة و يكون منهجنا الكتاب و السنة في إحياء الأرض ليس فقط تعبداً وإنما تشيد وبنيان . * مخطط ومصمم عمراني