إن شهد التاريخ للأب المؤسس جهده في رسم المخطط ، واختيار الأرض ، وتأسيس قواعدها ، فقد شهد لمن استلم الراية من بعده بمداد من ذهب أنهم ملوك بنيان ، يعمرون بيوت الله ، حساً ومعنى ، ويعبدون الطرق إليها ، ويحمون الآمين لها ، يكسون بيت الله ، ويطبعون كتابه ، ويكرمون حفظته ، ويذبون عن سنة نبيه ومصطفاه ، صلى الله عليه وسلم ، ويكرمون الباحثين فيها ، والعاملين بها ، ويحترمون أهل العلم ، ويقدمونهم ، تكريما لمورثهم ، ومعرفة بفضلهم . وقد أخذ كل منهم من وقته ، وما أفاض الله عليه من الخير فبذله في نصرة الدين ، وحماية البلاد ، ورفع شأنها ، كل بحسبه ، وكل بما يسر الله له . حتى كان هذا العهد المجيد ، فتضاعفت فيه الجامعات ، وعلت راية العلم والمعرفة ، تسابق الزمن لترتقي إلى قمة الحضارة ، والتقدم . وكل هذا ليس يعنيني في مقالي هذا ، إذ إني لا أريد الحديث عن الإنجازات ، السابقة ، ولا الحاضرة ، ولكني أقف اليوم متأملا كيف اختصر (عبدالله ) الطريق إلى الله ، فقرأ قوله « كلا ، إن الإنسان ليطغى ، أن رآه استغنى » ثم وقف مليا عند قوله « إن إلى ربك الرجعى » فاستبانت له المحجة ، ورسم أمام عينيه الطريق ، فإذا هو خط مستقيم لا اعوجاج فيه ! فسار عليه مستعينا بالله ، على بركة من الله . إني اسمع هذا من قلب «عبدالله » مترجما بلسانه وهو يثني على الله ، ويرجع الفضل إلى الله ، وينسب النعمة إلى الله ، يشكرها ، ويحدث بها ، وينفي الحول والقوة إلا به ، متجنبا قول قارون – حين بغى على قومه – فقال : إنما أوتيته على علم عندي . بل ظل يردد قول سليمان – حين رأى الفضل ، وأدرك النعمة – هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر . فاختار الشكر ، وارتمى في أحضان الرعاية الملكية العليا ، متضرعا ، ومتخشعا ، برأس لم ينحن أبدا إلا لله ، وبشيمة لم تخضع لأحد إلا لله ! ليثبت لنا « عبدالله » أنه اسم على مسمى ، وأن الإنسان الذي يطغى ، أن رآه استغنى ، ليس الإنسان الذي يعلم أن إلى ربه الرجعى . حينها سيسأله الرب عن رعيته ، ما صنعت لها ، وبها ، فيستطيع «عبدالله » أن يجيب بتاريخ يعبق بالبناء ، وتوسعة لم يشهد التاريخ لها مثيلا لأعظم بيت في الأرض ، لينتظم اسم « عبدالله » في سجل الخالدين ، من لدن إبراهيم ، عليه السلام ، إلى آخر من يختارهم الله تعالى لخدمة بيته ، فهو اختيار واصطفاء ، وربك يخلق ما يشاء ويختار . لقد اختصر « عبدالله » الطريق إلى الله ، حين يلقاه – بعد عمر طويل – بإنجازات ، وأعمال شامخات ، تبني صروحا للدين لا تغيرها عوامل التعرية ، بصدق ، وحب ، وذل ظاهر لله الواحد القهار . إني أوجه أنظار إخواني الأحبة ، أبناء هذا الوطن الحبيب إلى النظر إلى هذا الإنجاز العظيم ، توسعة الحرم المكي الشريف بعين بصيرة ، لترى كيف تضع يد « عبدالله » حجر الأساس للبناء ، وكيف تهدم يد غيره من قادة العرب مآذن بيوت الله ، وتعيث فيها فسادا ، وكيف تُربِت يد « عبد الله » على كتف الضعيف منا ، بينما تقتله يد الراعي هناك ، وتنتهك عرضه ، وتعذب أحبابه ، وتسجن أرحامه ، وتصادر أمواله ، حتى بلغت بهم الجرأة مبلغا عظيما فيقال للمواطن المسكين هناك قل لا إله إلا ... فيجعلون الحاكم حين يطغى إلها من دون الله ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا . بينما نسمع حاكمنا ينهانا عن تسميته بملك القلوب ، والإنسانية ، ويأبى أن يقبل أحدنا يده ، ويأبى أن نسمي إنجازه مكرمة ، ويصر على أنه خادم للشعب ، فشتان بين من يخدم الشعب ، ويسعى لنفعهم ، ويبكي على بعض شعبه حين يرى أيتامهم ، ممن قتلت آباءهم يد الغدر ، والخيانة ، وبين من يضحك ملء شدقيه وهو يرى الدم سريا من قومه بأيدي جنوده ، الجنود الذين لبسوا ثياب حماة الوطن ، والرعية ، ليغطوا بها قلوب الذئاب المفترسة . وقد أعجبت أيما إعجاب بما وفق إليه الشيخ صالح الحصين حفظه الله ، في كلمته العميقة ، التي ألهمها ووفق إليها ، وهو يربط إرادة الإصلاح بتوفيق الله ، فوالذي نفسي بيده لقد صدق الشيخ فيما قال ، فما نراه في وجه « عبدالله «لا أخاله إلا توفيقا من الله لأنه أراد الإصلاح ، وأضيف هنا شاهدا آخر على ما ذكره الشيخ – وفقه الله – وهو قوله جل في علاه « إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما » فقد ربط بين إرادة الإصلاح والتوفيق له . « عبد الله » إنك تشيد لنا تمثالا يخلد ذكراك ، يختلف كليا عن تماثيل القادة التي تهاوت في حياتهم ، ولم تتبعهم إلا لعنات المظلومين . فتمثالك هذا شرعي ، وسني ، وقرآني « إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ، وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين » . وفي السنة الشريفة : أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أراد بناء المسجد . فكره الناس ذلك . وأحبوا أن يدعه على هيئته . فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من بنى مسجدا لله ، بنى الله له في الجنة مثله " . وفي رواية : بنى الله له بيتا في الجنة " . قال هذا حين عزم على توسعة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم . والشاهد منه أن توسعة المسجد لها مثل أجر بنائه ، فعثمان لم يبن أصل المسجد ، بل وسعه . فيا « عبدالله » سر على بركة الله ، واخدم بيت الله ، ومسجد رسول الله ، وأبشر بالثواب من عند الله ونحن جنودك ، ورعيتك ، سنعينك بأقوى سلاح ، وأفتكه ، سنعينك بسهام الليل نطلقها في عنان السماء سحرا ، وفجرا وظهرا وعصرا ، بأن يحفظك الله ، ويرعاك ، ويسدد على درب الهدى خطاك ، ويشملك برحمته في دنياك وأخراك ، وأن يطيل عمرك حتى تزيل الستارة عن اللوحة التذكارية بيديك الكريمتين لتعلن افتتاح المشروع العظيم ، فيفرح المؤمنون بما وفقت له ، ويحزن المنافقون ، إن ربي سميع قريب .