منذ بدء الإعلان عن تحوّل رواية "توق" لكاتبها الشاعر الأمير بدر بن عبدالمحسن إلى عمل تلفزيوني والجميع يرقب بشغف هذا العمل، وليس سراً إن قلنا إن اسم مؤلفها "البدر" كان هو المحرّض الأول للانتظار، ذلك لأن الجمهور يتوق إلى التلصص على مخيلة البدر، وتلمّس إبداعه من باب آخر غير باب الشعر. وجاءت الفرصة عبر عمله الروائي الملحمي "توق" الذي تدور أحداثه في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر في عالمٍ فانتازي يخلط الواقع بالخيال بالأسطورة، يقوم فيه "سراب" بدور الراوي الذي يؤديه الفنان الكبير غسان مسعود، ويسرد لمعشوقته "هال" حكايات من صادفهم في تجواله الذي لم يُحدّده بزمن معين، حكايات مسرحها الشرق بصحرائه الشاسعة، حيث انصهرت فيها الأسطورة بالواقع، وتعاقبت فيها الأزمنة ببراعة، وكأنها حكايات جُزت من "ألف ليلة وليلة"، تلك التي شغفت بها هيلين، الباحثة الاسكتلندية التي قصدت القدس، ومن ثم انتقلت إلى قرية "أم الرماد" الواقعة في صحراء النفود بغية استكشاف الشرق الذي طالما هجست به وبأساطيره. "سراب" هو الرجل الغامض الذي يظهر لهيلين فجأة ويختفي بذات الطريقة، وهو من أسرّ لها بالرحيل إلى "أم الرماد"، وهو ذاته الرجل الغريب الذي جاء إلى قرية "العاطشة" لينبئهم بتأويلات القدر؛ ما جعل بعضا منهم يصفه بالمجنون والساحر. يبقى سراب أحد ألغاز العمل، فمازلنا نتساءل: من هو؟، هل هو إنسي أم جان؟. و"هال" معشوقته هل هي "هيلين" الباحثة التي اختفت في جوف الصحراء؟. وما علاقته ب "توق"؟.. تلك الجنية التي تُحرّك وتلعب بأقدار من تصادف من البشر من أجل غايات علمنا بعضها وبعضها ما زلنا نجهله، كحكاية عشقها للمولود "سدران" الذي ترغب بالزواج منه، وحكاية انفصال فاطمة وفرّاس في ليلة زواجهما، وحكاية غرق "سالم الضامي"، واختفاء هيلين في الصحراء. لاتزال الأسئلة مفتوحة، ولايزال الغموض واللغز الذي يستفز عقل المُشاهِد مصدر لذة له، والنتائج التي تأتي بغير التوقعات مصدر دهشة ومتعة. نستطيع أن نقول إن العمل بطريقة بنائه للقصص، وتلاعبه بعنصر "الزمن" يشبه المتاهة، فكل باب ينفتح على آخر، وكل مشهد يقود إلى لغزٍ جديد، وهذا ما جعل مسلسل "توق" يشذ عن بقية الأعمال العربية التي عهدناها. أما الحوارات، فهي حكاية أخرى، إنها ولفرط شاعريتها، قد طربت لها الجوارح، ولانت لها الأفئدة، وكأنها ولحسنها قد قُدت من روح "البدر"، ولم تكن الصورة التي برع في صوغها المخرج التونسي شوقي الماجري - مخرج مسلسل "الاجتياح" الحائز على جائزة إيمي العالمية - أقل شأناً من الحكاية ومن الحوارات، فبإخراجه المميز واهتمامه بالصورة وبتفاصيل المشاهد، استطاع أن يرقى بالعمل لمكانة تليق به، وجعل منه عملاً ملحمياً كبيراً سيكون نقطة فارقة في مسار الدراما العربية.