برزت سميحة خريس كروائية أردنية متميزة في التسعينيات، وكانت روايتها " شجرة الفهود" بجزئيها، من بين الروايات اللافتة عربيا، حيث قاربت تاريخ المكان الأردن، كتشكّل وهوية. وكان أسلوبها الجامع البانورامي، أشبه بالانثربولوجيا الاجتماعية، فسجلت بادرة مهمة في تقعيد الرواية الأردنية. تابعت خريس رحلتها عبر مجموعة من الروايات التي رسخت مكانتها في بلدها وبين قرائها العرب. في عملها الأخير " يحيى" الصادرة عن دار ثقافة الإمارات، تتابع سيرة أحد المتصوفة حيث ولد في قرية من قرى الكرك، وتنقّل بين مصر والشام طلبا للعلم وهربا من الظلم، وأُعدم من قبل رجال الباب العالي في مكان إقامته الأخير قبل أن يعود إلى بلده. الرواية تقوم على قصة مبتسرة للشخصية الرئيسية يحيى الكركي، وعثرت عليها الكاتبة بين ثنايا المؤلفات التاريخية، ولكنها استطاعت ان تجعل لهذه الشخصية امتدادات رمزية في فكرة التصوف نفسها، كممارسة روحانية تحمل وجهاً سياسياً في مكافحة الاستبداد، وبعداً تطهيرياً من التعصب الديني والمذهبي والمناطقي. وكما ورد في تذيل الرواية التي تجاوزت الأربعمئة صفحة، استعانت الكاتبة بمؤلفات عن التصوف وكتب الفقه والبلدانيات والمرويات والتواريخ السياسية للمكان والدولة العثمانية. ومع أن رواية بهذا الحجم ترهق القارىء في العادة، وتقلل من فرص تداول الرواية في زمننا، غير ان البعد التشويقي الذي تحفل به، ساعد على متابعة مصير البطل المأساوي دون ملل، وإن أتعب الرواية بمغامرات وأشعار وترديدات ونصوص، فرشت العمل على مساحة أفقية، وقللت فرصة التوجه عمقا نحو متابعة مغزى الأحداث والشخصيات. يحيى ابن الكرك شخصية مأسوية في نهاية مطافه، والجانب الملحمي في سيرته الشعبية يسير وفق خط مستقيم يبدأ بالمظهر الجميل الذي يضفي عليه مسحة قدسية، وينتهي بالسلوك اليومي والعلم الوفير، واخيراً الشجاعة التي تذهب به إلى منصة الموت. يحيى المبارك الذي يرقى إلى رتبة الأولياء، ابن عيسى الطحّان الفقير حيث رزق به بعد فقدانه تسعة أبناء يموتون حال ولادتهم، ولكنه يعيش بتصميم أخته مريم التي تكبره بعشر سنوات، وتقوم بتربيته بعد وفاة أمه النفساء المريضة التي ذهبت إلى بيت الوكيل العثماني كي تفتدي وليدها. اسم الأب والأخت يبدوان إحالة إلى مسمى معلوم، وحتى المرأة التي يعشقها البطل، وهي من رقيق العثمانيين وتعيش في بيت طرب في قاهرة المعز، تذكّر القارىء بمريم المجدلية. تجمع خريس في روايتها ثقافة المكان إلى أساطيره وفلكلوره، وهي ترحتل بين المسيحية والإسلام عبر فكرة التصوف، وسنجد الكثير من الشبه بين شخصية المسيح وشخصية البطل، سواء بسيرته التي يتعرض فيها إلى النفي والارتحال، أو إصراره على ممارسة المهن كصانع عند الحرفيين مع انه صاحب علم ومتأدب ومعلم تلاميذ. كما ان حوار الشخصية ومنازعها العلمية يربطان بين الفقه علم مرحلته الإسلامية، والفلسفة اليونانية التي اكتشفها البطل عبر مؤلف لابن سينا. كل تلك المكونات العقلية والروحية للبطل صاحبت دعوته إلى التسامح ومكافحته السلمية للاستبداد. مفتتح الرواية يبدأ بعام ولادة يحيى في القرن السادس عشر، وستكون تلك الولادة بشارة لانتهاء وباء الطاعون الذي حل بخربة جلجول التابعة للكرك، حيث ينسى الناس تلك الكارثة، ويباركون الوليد بعد أن نبذوه في البداية، كما الحال مع الشخصيات الإعجازية، ثم يلتفون حوله بعد أن يكبر بسبب علمه وتأدبه، فيدبر وكلاء الولاة في قريته أمر سوقه إلى الجبهة العثمانية كجندي، ومن هنا تبدأ مغامرة الهروب بين مصر والشام. وستكون فكرة الارتحال نفسها محاولة لمقاربة الأماكن الحقيقية،كما صورتها كتب البلدانيات: الكرك حيث القرية تتصل بالبادية والمضارب الصحراوية، ومصر والشام وطبيعة حياة العواصم العربية التابعة إلى الدولة العثمانية، ونوع مدارسها وتكاياها وأسواقها وبيوتها. تقوم هذه السردية على الشخصية الواحدة المتفوقة على محيطها، وسيرتها المدونة أو التي يحاكي السارد تدوينها، هي عبارة عن أنشودة مدحية، حسب التقسيم الأرسطي لفن المحاكاة، وكان على المؤلفة كي تبلغ ملحمية تلك الشخصية، تناول الجانب المأساوي منها، ويتمثل بفعل النفي، النفي عن المكان الأول، ثم محاولة العودة إليه، ثم الإعدام بالسيف. لعل المحاكمة الأخيرة التي يساق فيها يحيى من مشفى المجانين حتى مركز الحكم تحت أنظار جمهوره في بلاد الشام، بمثابتة المرافعة الأخيرة في اطروحة التصوف، وهي مرافعة طويلة، يصبر فيها محبوه على البرد الشديد من أجل فعل التطهير الذي لا يقتصر عليه وحده. محاكمة ينقسم فيها الحضور بين جماهير البلدة المعجبة بهذا المتصوف، والقضاة الذين يفضحهم البطل بعلمه وحكمته وصموده. اللحظة التي تصعد فيها المأساة إلى ذروتها، تنطوي على موقف يتردد فيه بعض القضاة في اصدار حكم الإعدام، فيطلبون من البطل الاعتذار عن الذي نثره من أقوال عن الظلم والاستبداد، ولكنه " تحسس إرادة مسعورة تسعى بإصرار لامتهان عقله وحدسه، ساعية لنيل رضا الأئمة والسلاطين، وحماية الكراسي والعروش والمكتسبات، تعرّف في إهاب نفسه الوادعة على محارب شرس، ظل يعالج حنقه بحدس المؤمن، وحلو الدعاء، بلغت ترانيمه الساحة، مخترقة صفير الريح " كما يختصر صوت السارد صورة البطل وهو في ساعته الأخيرة. يحيى الفقيه والعالم والمتمسك بأقوال ابن عربي وشيوخ المتصوفة، يواجه القدر الحتمي لفعل الصلب ويفتدي جمهوره المقهور بروحه. ولن يتغلب نداء الحياة على بلوغه هذه الغاية، فقد علم بقدوم حبيبته الجارية من مصر، واستشعر حضورها بين الجمهور بعد ان سلمته " المشخص" وهو عملة ذهبية أثرية يعتقد أهالي الكرك بإمكانيات سحرية لها. لعل الربط بين الطقس الديني الشعبي والسحر والشعوذات من بين ما حاولته الرواية، او ما ساقته المؤلفة كي تخلق البعد التشويقي لروايتها، أو كي تكون للرواية إمكانية على التحرك بمرونة بين حدود التاريخ والحياة اليومية، ولكن استغراقها في العروض الفولكورية، أتخم الرواية بما هو زائد عن مقاصد الكلام. قاربت سميح خريس في مواقع كثيرة من روايتها اللغة التراثية، وكان الوصف من بين رافعات العمل حيث حملت القارىء بين أماكن ووقائع مختلفة، فالشخصية كما تقول المؤلفة في نهاية الكتاب، لم تترك وراءها أقولاً وأمثالاً، ولا أقيم لها مقام أو زاوية، ولكن هذا الرجل " لسبب مجهول، اختارني وأغواني في بدايات القرن الحادي والعشرين" لعل غواية السرد هنا، تتساوى مع غواية المعرفة ليصبح الفعلان فعل الخيال وفضول المعارف متوازيين في ميزان الرواية.