هل خلقَ مشهد الرئيس المصري السابق حسني مبارك وهو يستمع إلى لائحة الاتهام - مستلقياً على فراش المرض - صدمة للوجدان العربي ؟ هل عاد وبعثر الكثير من الشعارات المتعلقة بالعدالة والثورة وحكم القانون ؟ وبالتالي رفع علامات استفهام حول أثر الجيَشان الشعبي وتصعيد انفعالات الشارع المصري على استقلالية قضاء مابعد الثورة ؟ ليس هناك مؤشر دقيق من الممكن أن يقيس ردود فعل الرأي العام العربي على هذا المشهد , ولكن من الممكن الاستشفاف عبر بعض وسائل الإعلام والمجتمع الافتراضي في الإنترنت بالاضافة إلى الدوائر الضيقة في المجالس الخاصة أن هناك مايشبه الصدمة الناتجة عن تدابير قانونية صارمة أغفلت الأبعاد الانسانية لرجل مسن يعاني من مشاكل صحية. مجتمعاتنا في العالم العربي مابرحت مجتمعات أبوية (بطريركية) وشكل التراتب الهرمي للسلطة ينحدر من الأعلى للأسفل , ولن تتقبل تلك المجتمعات بسهولة خلخلة مواقع الأب حيث مابرحت مركزية الأب (بجميع أبعاده الرمزية) تستحوذ على النفوذ والسلطة وميزان العدالة , ومابرح الرمز الأبوي في اللاوعي الجمعي يمثل الفرد الصمد الذي لابد أن يخضع له وتبذل في حضرته جميع صنوف الولاء والطاعة. مابرحت تلك المجتمعات تراوح في نطاق الوعي الذي ينتظر القائد الأب الملهم , والمستبد العادل , حتى ولو كان انتظار نموذج المستبد العادل هو الأمر الذى يرى فيه المفكر العربي الجابري سبباً لغياب الديمقراطية عن شعوب المنطقة ,كونهم يظنونه نموذجا مثاليا أفضل من الديمقراطية ودولة المؤسسات والسلطات المستقلة. وعندما نذكر أن البعض كان يرى وجه صدام حسين بعد إعدامه مرسوماً فوق القمر بالتأكيد سنرى في رأي الجابري جانبا كبيرا من الصحة, بل إن الكثير كان يتابع جلسات محاكمة صدام بشغف كجولات من المصارعة الحرة بين الشر والخير كونهم يجدونه يعكس النموذج الذكوري الصامد , حتى ولو كان تاريخ صموده دمويا أهدر مقدرات العراق البشرية والمادية، وقهقرها سنوات إلى الخلف. في مصر قامت بعض المناوشات أمام المحكمة بين مؤيدي الرئيس السابق، وبعض من ثوار الشارع , وهي في غالبها مناوشات ناتجة بالتأكيد عن صدمة الوجدان المصري من التمثيل بصورة الأب. لذا مهما كان موقفنا من محاكمة الرئيس المصري السابق , إلا أن انعكاساتها على الوعي الجمعي لن تمر بسهولة , فمرحلة الانتقال من وعي التراتبية السلطوية المنحدرة تراتبيا من كائن علوي نزولا إلى الأسفل , إلى وعي مجتمعات المدنية الحديثة وتداول السلطة وإحلال واستبدال سلطة الأب الفرد بقوانين الجماعة , سيحتاج سنينا طوالا، وسيتطلب أيضا تجذير الفكر المدني وتوفير المناخات الحاضنة له , وبالتأكيد لن يتم هذا عبر أشهر قليلة من الثورة , وحتى ذلك الوقت لا نستطيع سوى أن نعترف أن مشهد محاكمة الرئيس السابق وهو على فراش المرض كان صادماً للوعي الجمعي..